الساحر والقرية*

الساحر والقرية*

موسى الأشخم

تعاقب على القرية ( م ) ملوكُ مستبدون، عانى من ويلاتهم أهل القرية، منع الملك إدريس الأول عنهم المرعى ليحتكره لقطعانه ومواشيه، ومنع الملك إدريس الثاني عنهم الماء ليضخه إلى قصره، فجفت ينابيع القرية وعطش الناس، وجعل الملك إدريس الثالث يعمل على توسيع قصره عاماً بعد آخر حتى شمل القرية كلها، وصار يفاخر في صولاته وجولاته بأنه أول من جعل من رعاياه أمراء وأميرات يعيشون داخل القصر الملكي، ولا تحول بينهم وبين الملك الأسوار العالية كما جرت عادة الملوك في عصره. غير أن أهل القرية كانوا قد ضاقوا درعاً بذلك، فكان على أهل القرية أن يمكثوا في منازلهم حين يتنزه الملك وأفراد عائلته داخل حدائق القرية القصر، وكان عليهم أن يصطفوا في صفوف طويلة لتحيته والهتاف بحياته والتصفيق له مرتين كل يوم؛ واحدة عند الصباح والأخرى عند المساء، وكلما حل عليه ضيفاً أو احتفل بمناسبة ما كعيد ميلاده أو ميلاد أحد أفراد أسرته. كما كان عليهم أن يستمعوا له واقفين لساعات طويلة دون أن يتاح لهم الجلوس أو الاتكاء أو حتى قضاء الحاجة.

تغلب ألهم والغم والحزن على أهل القرية، ذبلوا كأعشاب لفحتها الهاجرة، أو كأشجار قطع عنها الماء. صاروا جثثاً تجول في أزقة القرية بحثاً عن بقايا تقتات بها من نفايات القصر. وهم على تلك الحال ظهر في القرية ساحر كان قد تعلم فنون السحر من مخطوطات وجدها في خزائن جده، الذي كان فقيه القرية وأمام جامعها الكبير ، صار ذلك الساحر تسلية أهل القرية الوحيدة فكانوا يتجمعون حوله كل مساء قبل أن يأووا إلى النوم ليعرض عليهم فنونه السحرية. ظلت القرية تنعم بالهدوء رغم الجوع والعطش وألهم والغم وتعسف الدرك ، تتأسى بالفرجة على ألعاب الساحر البهلوانية كل مساء. إلى أن ظهر الساحر على أهل القرية ذات مساء ليقول لهم بأنه يحمل في جرابه قمقماً، كانت قد أشارت إلى مكان وجوده مخطوطات جده، وإن بالقمقم مارداً ضخماً حين يحرره الساحر يمكن لأهل القرية أن يتمنوا عليه ما شأوا، وهو قادر على تحويل أمانيهم إلى حقيقة ماثلة أمامهم وفي لمح البصر. اغتبط أهل القرية واستبشروا بمغادرة بؤسهم، وتحررهم من عسف الدرك وقسوة الجوع والعطش. غير أن الساحر حذرهم بألا يُعيد الحاضرون أمام المارد طلباتهم، وإن حدث ذلك سيكون وبالاً على القرية التي سيحل عليها غضب المارد الذي يزعجه كثيراً إعادة الطلبات، وأحتار أهل القرية كيف يطلبون جميعاً طلبات مختلفة لا تعاد ومشاكلهم عديدة وبؤسهم واحد، جميعهم يشكو الجوع والعطش والذل والخنوع أمام تعسف الدرك، فكيف لهم ألا يعيدوا الطلب نفسه. غير أن الساحر كان لديه الحلُ الناجع لمشكلتهم، فطمأن أهل القرية بأن الحل يسيرُ فما عليهم إلا أن يقولوا وبصوت واحد أمام المارد نريد تاج المُلك! تاج المُلك، فيكون طلبهم واحداً ولا ينزعج المارد. تفرق أهل القرية مذهولين فكيف يمكن لهم جميعاً أن يكونوا ملوكاً؟ أنهم لم يسمعوا بحالة كهذه من قبل غير ما سمعوه من حكايات الجدات عندما كانوا أطفالاً صغاراً، عن قريتهم التي كانت تعيش دون ملك ودون عسس ودون ارباب عمل. حينها كان أهل القرية جميعاً يأكلون من عمل أيديهم، وكانت قريتهم تنعم بالخير والفرح وتعيش أجمل أيامها على الإطلاق، فكانوا يحلمون بالعودة إلى تلك الأيام حين كانوا أطفالاً ، غير أنهم ومع تقدمهم في العمر صاروا يدركون استحالة تحقق ذلك.

– هذا الساحر يقول كلاماً يدعو للضحك والسخرية، إنها المهزلة كيف يُصبح كل أهل القرية ملوكاً؟ ومن أين لهم بكرسي عرش يتسع لهم !؟ ثم أنه إذا كانت الممالك تفسد حين يتنازع المُلك فيها ملكان، فكيف بالقرية والناس فيها جميعاً يتنازعون المُلك، تم كيف يمكن لنا أن نتصور السوقة وقد أصبحوا ملوكاً يتمخترون في ثيابهم الملكية، ومن ذا الذي سيقوم بمختلف الأعمال الوضيعة والشاقة، حين يرتدي الخدم والكناسون والحمالون ومن هم على شاكلتهم ثياب الملوك ويتخلون عن أسمالهم وأعمالهم، أم أنهم سيقومون بأعمالهم تلك وهم يتمخترون في ثيابهم الملكية وعلى رؤوسهم التيجان ! إنه هراء وهذيان يصيب السحرة ومن يصدق ألاعيبهم السحرية. قال مترفو القرية والذوات فيها. تهلل فقراء القرية والمستضعفون فيها واستبشروا بما قاله الساحر وجعلوا يتهيأون لدورهم كملوك ، حلم الخدم والكناسون والحمالون والنجارون ومن في حكمهم بترك أعمالهم، وتخيلوا أنفسهم وهم يتمخترون في ثيابهم الملكية والتيجان فوق رؤوسهم، لا يلقون بالاً لإعمالهم السابقة التي لا تليق بهم حتما وهم ملوك، ثم إنه ومع تردي أحوال أهل القرية وافق الجميع على اقتراح الساحر، الذي ما أن أتفق أهل القرية حتى أخرج من جرابه قمقماً كان يخفيه بعناية، وقام  بأداء بعض الألعاب السحرية التي جعلت القمقم يهتز وتخرج منه ريح دائرية قوية أعمت أبصار أهل القرية لوهلة قصيرة، ثم أسفرت عن خروج مارد ضخم ارتعدت لخروجه فرائس أهل القرية، وما أن أستوى أمامهم حتى أعلن بأنه تحت تصرفهم وينتظر أمراً منهم ليحول أمانيهم إلى حقيقة ماثلة أمامهم. عندها قال الساحر وردد وراءه أهل القرية وبصوت واحد نريد تاج المُلك. وفي لمح البصر صار الجميع ملوكاً متوجين، فرح الفقراءُ والمستضعفون بتلك التيجان حتى إنهم صاروا لا يخلعونها من فوق رؤوسهم، إلاّ عند ذهابهم للنوم أو حين يخلدون للراحة، فتراهم يتجولون بها في الأسواق والشوارع والميادين العامة ووجوههم تملاها البهجة والفرح، فيما أخذ المترفون والذوات بتيجانهم إلى أسواق الصاغة ليحصّلوا ثمنها أو على ما يماثلها ذهباً ومعادن ثمينة. غير أن أولئك الذين احتفظوا بتيجانهم صاروا فعلاً يمارسون بعض الصلاحيات الملكية، فباشروا إصدار المراسيم الملكية التي صارت تصدر عن مجلس سمى  بمجلس الملوك، يضم في عضويته كافة الذين احتفظوا بتيجانهم ولم يحصٌلوا ثمنها من سوق الصاغة، وواظبوا على حضور جلسات المجلس المذكور، وكان أول مرسوم يصدر عن المجلس مرسوماً يقضي بتسمي القرية بمملكة الملوك، وبموجبه لا يجوز مخاطبة القرية أو الإشارة إليها في أي موضع يقتضي ذلك إلا بتلك التسمية المنصوص عليها في المرسوم. وتوالت بعد ذلك المراسيم الصادرة عنه لتعالج مختلف الأوجه والمجالات المتعلقة بأمور القرية، وإيراداتها ونفقاتها وكيفية تحصيل تلك الايرادات ، وكيفية أنفاقها وكذا تعيين المديرين وبعض الوزراء، وبعض السفراء لدى الممالك الأخرى.. الخ.

 أضحت القرية أشبه ما تكون بالقرية الأسطورية التي سمع عنها أهل القرية في حكايات الجدات، دون ملك ودون عسس ودون ارباب عمل. وصار الفرح يرقص جذلا في ميادين القرية العامة ومتنزهاتها، ويتجول في أزقتها ويتنزه على شواطئها ويدخل بيوتها ! غير أن بعض الملوك المتوجين من أهل القرية صاروا يضيقون درعاً بتدخلات الساحر الخفية والظاهرة في إصدار أو صياغة المراسيم التي يصدرها المجلس المذكور.

كونه ألبسنا التيجان وأجلسنا على العرش، لا يعطيه الحق في سلبنا ما منحه لنا مارده الصالح عن طيب خاطر منه، وإلا فلا معنى لما أعطاه لنا ومنحه إيانا. قال الملوك الجدد من أهل القرية .

 أنه حين يتدخل في إصدار المراسيم إنما يفعل ذلك من أجلنا، وحرصاً منه على مصالحنا التي قد لا ندركها فيدركها هو بمهارته السحرية، التي قادته إلى انتزاع الملك من المستبدين به من أل إدريس ليسلمه لنا وعلى طبق من ذهب، تم إذا بنا نستكثر عليه حرصه البالغ على مصالحنا التي قد تذهب بها ضعف بصيرتنا. قال المترفون الجدد من أهل القرية وأضافوا كان بإمكانه أن يستحوذ على الملك من دوننا، غير أنه قاسمنا المُلك تم أننا طمعنا في الاستحواذ على الملك من دونه، واستكثرنا عليه أن يجلس على كرسي أعلى قليلا من كراسينا، أو أن نقف له حين يدخل على مجالسنا، وضاق بعضنا درعاً بتدخله أحيانا في صياغة مراسيمنا، واعتبرنا ذلك انتقاصاً من سلطاننا الممنوح إلينا رغم كونه الذي منحنا إياه . لكم نحن مصابون بداء نكران الجميل.

أنه حين يتدخل في صياغة مراسيمنا يكون كمن يتبع صدقاته بالمن والأذى، فيفسد صنيعه بيده فالنبي لا يكذب أهله. قال مؤذن جامع القرية غير الرسمي.

–      أنا الذي ألبستهم التيجان ومنحتهم الملك ودون جهد منهم، في الوقت الذي كانوا فيه مجرد عبيد لدى أل إدريس يسومونهم سوء العذاب والقهر والجوع، ودون أن يمتلكوا حتى مجرد القدرة على الصراخ والتعبير عن الألم، فإذا بهم يستكثرون عليٌ بعض ما منحتهم إياه، كيف تستكثر الشمس والكواكب أو حتى أي من الكائنات والموجودات في هذا الكون على مانحها الوجود أي تدخل منه  في انتظام حركتها أو حتى إلغاء وجودها !؟ يالفظاعة الرعية حين يصير الأمر إليها وتستبد به فهي تصير أكثر طغياناً من الملوك والأباطرة عند استبدادها، ومن الجمال عند هيجانها والقاطرات حين تخرج من قضبانها، والسيارات حين تتعطل كوابحها فجأة وهي في عرض الطريق، ومن الرجل الآلي حين فقدان السيطرة عليه، فيا لهول هذا الطغيان أو هذا النكران للجميل قال الساحر.

يا أهل القرية إن الفضل لصاحب الفضل وحده سبحانه وتعالى، مهما بدأ لكم بأن الفضل لغيره إنه صاحب الفضل الأول والأخير، وما المتفضلون من الناس سوى أدواته ووسائله لتوصيل النعم إلى العباد، إياكم والشرك الخفي الذي طالما نُهينا عنه فلا يستعبدكم متفضل من الناس. قال فقيه القرية وإمام جامعها غير الرسمي.

مخطئي من يظن بأن المستبد والظالم من الملوك هو الذي يصبح إلهاً وفرعوناً، بل إن الصالحين والأفذاذ من الملوك هم الذين يصبحون معبودين وفراعنة.  فإياكم وعبادة هذا الساحر رغم أفضاله الكثيرة عليكم. قال المعمرون من أهل القرية.

الإنصاف والوفاء يقتضي أن ننادي به ملكاً للملوك في مملكة الملوك، التي لم يخلق مثلها في البلاد وخلقها هو بعبقريته الفذة التي لا تضارع ، ولن نفقد قيراط فرح إن فعلنا ولن ينقص تيجاننا أوقية ذهب حين نرد الفضل لصاحب الفضل، ونفوت الفرصة على منكري الفضل من أهل القرية. قال المترفون الجدد من أهل القرية وأذعن السواد الأعظم من الناس.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :