تَنّوَه ” مايشبه ترسب التجارب والمعرفة ”
سعاد سالم
قد تبدو مفردة ثورة للبعض منفرة ، وذلك بسبب ما يحيطها من غموض أو تلاعب، وأن كل ما يتعلق بها مشكوك فيه نتيجة ما يتلو موجة الترحيب بها في البداية، ليس لأن كل الناس يحبون التغيير ولكن بسبب خوف الكثير من تداعيات التغيير ، وما يترتب عليه من تصفية للحسابات، نعم فالثورة مهما كان رأيكم فيها هي تغيير اجتماعي أو سياسي أواقتصادي أو شامل، ولهذا تبدو مفردتي انقلاب في وصف سبتمبر ،أو مؤامرة في وصف فبراير ،ليس أكثر من توظيف سياسي في الحالين ، والأهم التنصل مما تلاهما من انفضاض بعض المؤيدين بسبب من تركز سلطة ما بعد التغيير في فئة محدودة أمكنها تجيير التغيير لصالحها ونكلت بباقي أفراد الثوار ومن ثم الشعب بالاستحواذ على المال العام وكل السلطات التنفيذية والتشريعية ، واستحالة المحاسبة.
فالثورة الفرنسية التي يستخدمها الجميع في تشبيهه للربيع العربي، رتبت لها نخبة من المجتمع الفرنسي صاغت بيانها نتج عنه تأييد العامة ورغم رومانسية الأحاديث عن الثورة الفرنسية، إلا أنها في الواقع كانت عنيفة وقاسية وفي النهاية تنافر الحشد الذي انضم إليها لأن الناس تحت الاستبداد مهما كانت مقاييسه مقارنة بالديمقراطية تربكها لغة مضللة هي لغة النظام السائد قبل الثورة وهو تحديدا ما يجعل حتى مفردات مثل الحرية والاستقرار والديمقراطية ومفردات كالأمن والقانون والرفاه مختلف عليها وليست لها نفس المعنى لدى الناس في البلد الواحد.
في تعريف عثرت عليه للثورة، أتصور أنه الأكثر دقة: إنها ظاهرة اجتماعية تقوم بها فئة أو جماعة ما هدفها التغيير (لا تشترط سرعة التغيير) وفقا لأيديولوجية هذه الفئة أو الجماعة، ولا ترتبط بشرعية قانونية، كما تعبر عن انتقال السلطة من الطبقة الحاكمة إلى طبقة الثوار.*1
إسقاط النظام!
وكأن سقوط النظام هو الغاية الوحيدة، لدى كنت من ضمن المرتبكين أيضا، وأنا أخرج مع شبان زنقة الشيخة راضية في مساء 17 فبراير، إذ إن الهتاف بإسقاط النظام كان وقتها لا عقلانيا فيما بدا لكثير من الناس الذين ظلوا يراقبوننا بحذر ومن بعيد، لأن وهذا ما أحسست وقتها أن الغاية الأساسية صعبة إلى الدرجة التي تجعل سقوط النظام ، هو أعلى سقف ،ومفردة النظام تشير للقذافي شخصيا حسب ما نشأنا عليه من تعبير يصف بدقة تركز السلطة في يد الرجل، وأن توجيهاته ملزمة بحسب ما يمكن تسميته بدستور مؤتمر الشعب العام،
كانت الهتافات خالية من مستقبل ما بعد سقوط القذافي وأفكاره المتقشفة والمرتابة والتي قسم على أساسها المجتمع إلى روابط شباب المناطق ورفاق وثوريين وبرجوازية ونظام بايد، المتحركين في الفاتح،ومواليد 69،وكلاب ضالة، وزنادقة،ومناطق مجاهدة ومناطق خاينة، وبادية ومدينة، وغاب الشعب الذي خاطبه بالعظيم في البيان الأول. وهي شبيهة بلغة تالية لفبراير 2011 أرسى قواعدها غياب العدالة الانتقالية،و عرقلة كل طريق للمصالحة بين أفراد الشعب الذي وقع عليه التقسيم مجددا إلى فئات ليس فكريا أو ثقافيا أو حتى سياسيا فهذا موجود في كل العالم بل باستخدام نفس لغة المستبد الذي سقط ، اللي مش زيّنا مايعيشش بينا، وعودة سريعة لفكرة النسيج الواحد الصادة.
الدستور
لم يكن لهتافات ثورة سبعطاش أي ملامح للدولة المنشودة بمطالب واضحة كما كانت في ثورة خمسة وعشرين يناير في مصر (عيش ،حرية، عدالة إجتماعية) بل بدت ومنذ العشرة دقائق الأولى في الشيخة راضية، وكأنه خروج مسلمين على فئة كافرة، فيما لم تتردد إلا لماما، ولمصلحة وقتية مفردات كالحريات العامة وحقوق الانسان، والمجتمع المدني والدستور والديمقراطية وفصل السلطات، سرعان مااختفت هذه المصطلحات في الصراع المسلح لتتحول القصة كلها مختصرة في خطاب ديني سيطر على اللغة وحولها تماما إلى مايشبه لغة رسمية للمنتصر، ليس لها أي علاقة بالدساتير الحديثة التي تحكم البلدان الديمقراطية، بل أصبحت الديمقراطية سلم يوصل للسلطة ومن ثم يُحرق أو يُهشّم.
أني الدستور تفضّل شنّ تبّي مني؟ الدستور سُكُّر .
هل تتذكرون هذه الدعايات المتكررة على التلفاز فيشرق الناس بالضحك؟ إنها تشابه تقنيات السخرية من أشخاص مؤثرين أزعجوا السلطة فتقتلهم بإطلاق النكات عليهم لتقلل من قدرتهم على الظهور كمثقفين أو مفكرين وفقهاء بالتالي دورهم مؤثرين أو كمصدر معلومات، في الثمانينات ظهر اسم الطاهر الزاوي*2 في النكات، كما لو أنه جحا ليبيا، تتفكروا؟
لذا دعابة فتى الدستور قالت ما غطى الضحك سماعه بأذن مرهفة للحرية، بعدما صارت كلمة حرية طعن في العقيدة، وقبلها كانت طعنا في سلطة الشعب.
تاريخ وطني بخيره وشره
لم أشعر يوما أن ليبيا لها علاقة بالعالم، لم يعرض التاريخ في المدارس ضمن أجزاءه المنتقاة ليبيا كجزء من العالم حتى في الحرب العالمية الثانية التي ظهرت ليبيا بعدها ككيان بثلاث ولايات ،فالآخر -دولاً أو شعوباً- ليس لنا بها صلة إلا في صورتين تقريبا، المجاهد ، والمانح ، إلى الدرجة التي تجعل التفاوض خسة وخيانة، وبيع النفط تمننا على العالم وكأنهم لايحتاجون أمواله، وهي مشاعر أوحت بها سياسات الدولة لكل الأجيال التي دخلت المدرسة في السبعينات خصوصا ، وصار التعليم عامة والتاريخ بالخصوص ورويدا مقتطفات متباعدة تملأ فراغاته بنفسها بهدف تغيير الأحداث أو المفاهيم في اتجاه يخدم تمكنها من السلطة ، فتختفي شخصيات تاريخية مقابل إبراز أخرى وتختفي تواريخ مهمة كالاستقلال، ويسقط زمن كامل من كتب المدارس من سبتمبر 1931 إلى أن تُبعث البلاد من جديد في سبتمبر 1969 كما بُعثت بنفس الأسلوب في فبراير 2011 وصلاً بفبراير 1947.
تاريخ البلاد يفترض أن يقرأ ضمن تاريخ محيطه وضمن أحداث العالم، فالانتصارات والبطولات التي تتبناها الأفلام والمسلسلات، وما تظهره من سلوك قوميات واثنيات أو ديانات ،هي أيضا تاريخ تترتب عليه أفكار وسلوك وأخلاق، التاريخ ليكون أكثر مصداقية ،من المهم أن يُقرأ من عدة مصادر ،و ضمن سردية أكبر لنرى أنفسنا وسط العالم لا كما يبدو أننا نُبعث أيضا كشعب، كل مرة من كتاب التاريخ لكل سلطة جديدة.
*1
*2 الشيخ الطاهر أحمد الزاوي.(1890-1986)