- نيفين الهوني
عند بوابة الجنوب صفاقس وفي قلب ريفها ، ترقد مدينة بطابع قرية ريفية من قرى الريف التونسي الجميل حيث يهمس الزمن ببطء وتغني الأرض بأصوات الأجداد، إنها الصخيرة، مدينة لا تعرف الصخب، لكنها تحفظ في ترابها حكايات الزمن الجميل، وتزهو في صمتها بجمال لا يُشبهه إلا الشعر حين يُغنى بحنين. في آخر عام 2015 زرت مدينة الصخيرة حيث استقبلنا الشتاء الذي تلحفت به المدينة ، كأنها عروس في ثوب فضيّ، تستقبل صباحاتها بنسائم باردة تنفذ إلى العظم، ولكنها تدفعك دفعا لآن تحي أجواء الجدات للتغلب على هذا الصقيع فبين كانون العافية وشاي اعشاب الطبيعة وحبات من اللوز الذي يجنيه السكان من أشجارهم ويخبئونه لضيوفهم في مواسم البرد يعيش ضيوف المدينة هذا البرد اللذيذ بذكريات وتفاصيل تنحت ولا تنسى ، دخلت المدينة صحبة صديقاتي من عائلة الدامي وهي عائلة كبيرة ولها تاريخها في المدينة ومثلما في كل بلد (نخشوا البلاد بهلها) ولأنها كذلك حظيت بزيارات عديدة لأماكن مختلفة وشاهدت طقوسا يومية وموسمية ربما لم يحظى بها سكان تونس على أختلاف مدنهم فمن طقوس جني الزيتون الذي تشتهر به المدينة ، والطقس الذي لا يكتبه التاريخ بمداده، بل تحكيه الأيدي المتشققة، والوجوه الملطخة بغبار الأرض وندى الصباح.حيث تمضي نساء الصخيرة، مع أول خيوط الفجر، إلى البساتين الممتدة على مرمى النظر ومنه مزارع عمي محمد الدامي ، يحملن في قلوبهن أناشيد الجدات وفي عيونهن بريق الإصرار. يتمايلن بين الأشجار كأغصانها، وينحنين كأنهن يصلّين للأرض، يلتقطن الحبات بحنو الأم على طفلها، وكأنهن لا يجنين زيتونًا، بل يقطفن جواهر من حبات عقيق وياقوت وألماس أسودا وأخضر،فتتمايل أشجار الزيتون في حضن الريح، تغني لحصادها، وترشّ عطرها على أيادٍ لا تعرف الكلل وقد شاركت وصديقاتي هؤلاء النسوة جنيهن لزيتون مزرعة والدهن و طقوسهن اليومية من غناء وغذاء وكنا نعود آخر اليوم متعبات مثقلات بحكايا لا تشيخ . بعد أيام الجني، وحملنا نحن ثمارنا لمعصرة عمي محمد وهناك شاهدت لأول مرة كيف تنبع الحياة من الحجر، وكيف يولد الزيت الصافي، الذهبي اللون، الصافٍ كقلب الأرض. وعاصرت فرحة العائلة وكل الحضور بأول لترات من الزيت هو ليس زيتًا فحسب، بل هو ذاكرة العائلة، زاد الشتاء، ورزق المواسم الأخرى وحصاد عرق السنوات الماضية في الزراعة والعناية .
وحين ، وتستفيق الأرض من بردها، يأتي الربيع إلى الصخيرة كضيف عاشق. تتفتح الزهور على خجل، وتتناثر الخضرة على الأرض كوشاح أخضر يغمر الهضاب والوديان. وتبدأ الحياة في الغناء فالأرانب تتوارى بين الأعشاب، والطير يغني فوق الأغصان، كأن الطبيعة تعزف سيمفونية لا تسمعها إلا الأرواح النقية من سكانها، فهم أبناء الشمس والملح، أهل الكرم والوقار، يحفظون الودّ كما يحفظون الزيت، ولا يفرّطون في ترابهم كما لا يفرّطون في الحبة الأولى من موسم الجني. يعيشون ببساطة، لكن قلوبهم فسيحة كالسماء، وحين يتحدثون عن مدينتهم، ترى الحب يخرج من أفواههم كدعاء عتيق الصخيرة ليست مجرد مدينة، بل ذاكرة متوارثة، سكنت هذه الأرض قبائل، وعبرها مرّ الرومان والعرب، وكلهم تركوا أثرا، لكنه لم يمحُ أبدًا أثر الإنسان البسيط، الفلاح، الحرفي، الأم، الجدّ، الذين صنعوا منها ملحمة يومية لا تُكتب في الصحف الرسمية
في الصخيرة، يكفيك أن تمشي على ترابها، تشرب من زيتها، وتستمع إلى الريح وهي تمرّ عبر أشجارها، فتفهم حينها أن الحياة لا تُصنع، بل تُولد. وهنا وُلدت حيث أنا اليوم .














