الصورة المدرسيّة

الصورة المدرسيّة

أدم فتحي

***

بَلِيَتْ مِنْ شُرْبِ دَمِي الأشجار

أنا المرميُّ بألفِ حجَرْ

مُلْقًى للوحْشِ كما يُلقَى الماءُ المطروق

لا تسْكُنُ رُوحي المذعورة

إلاّ في صورة مَدْرَسَتِي

وأنا طفلٌ ملء الصُّورَة

*

سِيدِي سِيدِي هل هذا أنت؟

هل تلك البنت

موزّعة الحلوى في الحفل؟

وذاك الطفل

أيكون أنا

أم طير الوقت

يطير بعيدًا عن قصصي وأناشيدي

كم حطَّ بعيدًا طير الوقتْ

وكم «استاحشْتِكْ» يا سيدي!

*

أنا ذا أتنفّضُ مِنْ أوراقِ العُمْر

كأنّ العُمْرَ غُبارُ سَفَر

واُقلِّبُ صُورَةَ طِفْلِي الضَّائِعِ مِنِّي

في أَلْبُومِ صُوَر

عَيْنَايَ هُما عَيْنَايْ

(بابَانِ على فَرَحٍ مَهْرُوق)

شفَتايَ هُما شفَتاي

(مُتكوِّرَتانِ على شَكٍّ مَوْثُوق)

قدَمايَ هُما قدَماي

ظُفْرٌ مشقُوق

وبَقايَا زَلْعٍ من بَعضِ الغارَةْ

(كُنّا نَنْسَلُّ إلى بُسْتانِ الجارة

مُعْتَذِرِينَ بِجمْعِ الطائِحِ من رُمَّانٍ أو برْقُوق)

لكأنَّ الصُّورةَ في كَفِّي قَلْبِي المسحُوق

ما زال كعادتِه ينبضْ

ما بينَ الأسْوَدِ والأبيَض

فتداهمُنِي الأسماء

وتُكلِّمُنِي الأشياء

حتى لَأكادُ أُصدّقُ أنَّا لسْنَا مثْلَ الغَيْر

وأنَّ الشَّيْبَةَ حادِثُ سَيْر

لكأنّ الصورة في كفّي إنسان

يتكلّمُ من خلف النسيان

لغةً عذراء

لم تجْرُؤ بَعْدُ على شفَتَيْن

ولم تَلْتَفَّ على نَهْدٍ ممشُوق

*

ما حَالُ مُعلِّمِنَا هذي الأيّام

وبماذا يَشْعر

حين يَقِيسُ الواقِعَ بالأوهام؟

هل عَلّمَنَا دَرْسُ التعبير

إعطاءَ المعنى أجنحةً لِيَطِير؟

هل عَلّمَنا دَرْسُ الإملاء

إنْطاقَ الصّمْتِ

وإطلاقَ الأشياءِ من الأسماء؟

هل خُضْنَا آخرَ أيّامٍ للحَرْب

بِجَدْوَلِ ضَرْب؟

هل عُدْنَا منتصرين

من واو النّحو؟

وهل عُدْنا ناجِين

من نُونِ الصّرْف؟

وهل عُدْنَا كالقِدِّيسِين بلا آثام

مِنْ حِرْفةِ توزيعِ الألواحِ على الأصْنَام

وترْجَمَةِ الأرواحِ إلى أرقام؟

ماذا لو نَطَّ مُعلّمُنَا من صُورتهِ

وقَضَى معَنَا يومَيْن

في هذا الحَقْلِ مِن الألغامْ؟

*

سِيدِي

سِيدِي

لمْ أَنْسَ دُروسَكَ لكنِّي

مَخْلُوقٌ مِنْ طِينٍ مَخْفُوق

أتساءل عن حالي مخطوفًا

في حلقي أُفقٌ مخنوق

مَنْ طارِقُ بابِي هذي الليلةَ

طالبُ عشْقٍ أم مَعْشُوق؟

مَنْ سارِقُ مَدْرسَتِي مِنِّي

في الجُمْلَةِ مِنْ عُمْرِي المَسْرُوق

*

بحياتِي عندَكَ يا «سِيدِي»

هل أنتَ بِخَيرْ؟

هل خَفَّ صُدَاعُك؟

ماذا عن أعراضِ البَرْدِ

وماذا عن آلام الظّهْر؟

بِحياتِي عندِكَ لا تَحْزَنْ

إن أرْعَدَ بَحْرِي أو أَزْبَدْ

فأنا ورِيَاحِي عِشْرَةُ عُمْرْ

ولنا مع كلّ غَدٍ موْعِد

ومَعيِ مِنْ دَرْسِكَ ما يَكْفِي

لِأقُودَ الفُلْكَ إلى أَبْعَد

بحياتِي عندَكَ لا تقْلَق

فأنَا لا بَأس

ملعُونٌ صُلْبُ الرّأس

جَموحٌ كالجامُوس

عنيدٌ كَالكَلتُوس

أكَلْتُ جَرَادَ البحْر

ورضعْتُ حليبَ النُّوق

وكعَهْدِكَ بِي أتنفّسُ دُونَ هَواء

وأُغَنِّي تحتَ الماء

وأُهَرِّبُ حُلْمِي حتى من جُرْحٍ مفتُوق

*

في النّوَّةِ حين يَجِنُّ الليلُ

وتَلْمَعُ أنْيابٌ وبُرُوق

وأنادِي لا يعلُو صوتٌ في الصَّمْتِ

ولا يَدْنُو مخلُوق

أتأمّلُ صُورَةَ مدرستي

فإذَا فيها قُزَحٌ سَهْران

وخُيولٌ تَعْبُرُ بالألوانِ سماءَ الأبيضِ والأَسْوَد

وأُراجِعُ طاوِلَتِي فأرَى

أسماءَ لِداتِي مَحْفُورَة

وأرى في ياقةِ مِيدَعَتِي

أثرًا من طَيْش الطّبْشُورة

وأراني جَنْبَكَ يا «سِيدِي»

بجبينِ قَمَرْ

وحَنَانِ مَطَر

وأنا تلميذٌ غضُّ العُودِ

وقَلْبِي فوق العُودِ وَتَر

وأراكَ أراكْ

تتكلّمُ في صمْتِ الصّورة

بِلِسانِ الطَّيْر

وتَمْشِي فَوْقَ الماء

فأَهُزُّ إِلَيَّ بذَيْلِ بْلوزَتِكَ البيضاء

تسّاقَطْ بَيْضَ حَمَامْ

وزُهورَ سَلام

حتّى تَتَلَبَّسَ بِي ذكراك

فأكادُ أَدُقُّ على الصُّورة

كي أوقِظَها فتراك

وأكادُ أشقُّ الصُّورَةَ كي أَلْقاك

لأرانِي أجْمَلَ في عَيْنَيْك

وأراني طفلاً بين يديك

وقد بَلِيَتْ مِنْ شُرْبِ دَمِي الأيّامُ

ومَا بَلِيَتْ تلك الصُّورَة

وأراها تَعْكِسُ لِي

كِسَرًا مِنْ رُوحِي المَنْثُورَة

وكأنّ الدنيا مِرآةٌ

لا تَصْدُقُ إلاَّ مكسورة…

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :