الطغيان ” نقد أسطورة الاستبداد الشرقي “

الطغيان ” نقد أسطورة الاستبداد الشرقي “

  • د :: موسى الأشخم

مقدمة:

  درج المثقفون العرب المولعين بتقليد الغالب والمرسكلون لثقافته على ترديد عبارة “الاستبداد الشرقي”، وعلى إلصاق الاستبداد بالشرق وعقد ألوية الديمقراطية على الغرب وحواضره، ودون أي تمحيص للمسألة؛ فيكفي أن تأتي الفتوى من دور الفتوى الفلسفية والفكرية الغربية، ليكون لها حجية الدليل القرآني، فلا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. بل ويُعد الخروج عنها وفقاً لهؤلاء كفراً بواحاً بالعقلانية والحداثة والمعاصرة وما في حكمهم. والغريب في الأمر أن هؤلاء الذين يعيدون انتاج الفكر الغربي بلسان عربي مبين، يأخذون على التيارات السلفية إعادة انتاجها “رسكلتها” لفقه وفكر عصر التدوين. ويتهمونهم بالاجترار وتغييب العقل بينما هم لا يتجاوزون فتاوى ومنتجات العقل الأوربي منذ أرسطو وحتى فوكوياما، ودون أن يضيفوا إليه جديداً يذكر. ويُعد أبعد هؤلاء شأواً وأكبرهم منزلة من تمثل النظريات الغربية، واستطاع أن يطبقها في بيئته وإن كان ذلك على طريقة سرير بروكوست([1]). ونظرة فاحصة للتاريخ الأوربي تفيدنا بأن الأوربيين في تاريخهم القديم لم يتحرروا من طغيان مترفي المال والجاه، إلاّ فترة وجيزة أطلق عليها الفلاسفة والمؤرخون تسمية “حكم الطغاة”؛ وذلك لأحد سببين: الأول: انتماء هؤلاء الفلاسفة والمؤرخين لمترفي المال والجاه. الثاني: تكريس أنفسهم وأقلامهم لخدمة مترفي المال والجاه؛ فالفلاسفة ومترفي القول عموماً يتطلعون لمعيشة أرقى من معيشة العامة، فهم النخبة المثقفة والمبدعة التي ينبغي أن تُسترضى من قبل أهل المال والجاه، حتى لا تؤلب عليهم العامة، ومن ثم فهم منحازون لمترفي المال والجاه بالضرورة، إلاّ من رحم ربي.

  وتسمية القادة والحكام الذين وصلوا إلى الحكم بدعم من العامة بالطغاة في أوروبا، قديمة قدم فلاسفة ومؤرخي اليونان، وترجع إلى مئات السنين قبل الميلاد، وجاءت التسمية من الفلاسفة والمؤرخين اليونانيين ثم الرومان، وذلك للاعتراض على طريقة تولي قادة الثورات في مدن اليونان أو في روما القديمة للحكم، الذين تولوا السلطة وفقاً لهم بطريقة غير دستورية؛ فهم ليسوا أبنا ملوك، ولم تقم باختيارهم النخب المسيطرة على المال والجاه المنضوية بمجلس الشيوخ، وحتى حينما أسس العامة أو قادتهم مجالس لهم نظر لها مترفو المال والجاه والقول نظرة استعلاء واعتبروها فاقدة للشرعية، ومع ذلك فهي لم تدم طويلاً.

  وسار الفلاسفة والمؤرخون الأوربيون المعاصرون على نهج أسلافهم اليونانيين والرومان؛ فوصموا عبد الناصر وكاسترو وأليندي وشافيز وموجابي على سبيل المثال لا الحصر بالطغاة، لا لشيء إلاّ لأنهم لا يؤمنون بعقيدة حرية السوق، أو بمعنى أدق حرية نبلاء المال في تقييد حرية الأخرين، ولكونهم لم يصلوا إلى السلطة بمباركة المجالس النيابية المختطفة من قبل نبلاء المال أو المشتراة أصواتهم من قبلهم، من خلال توليهم تمويل الدعاية الانتخابية للمرشحين للبرلمان أو لمرشحي رئاسة الجمهورية، أو من خلال منح التسهيلات لهم بعد الفوز بعضوية المجلس. بل إنهم اعتبروا حتى رؤساء جمهوريات وصلوا إلى السلطة عبر الانتخابات، أو عبر مجالس النواب كاليندي وشافيز ومادورو طغاة لا لشيء إلاّ لأنهم تبنوا سياسات للإصلاح الزراعي أو أية سياسات من شأنها الارتقاء بالعامة، والذين لا يملكون سوى جهدهم، وتحويلهم إلى ملاك لأصول حقيقية أو مالية، وهو ما يغيض مترفي المال والجاه. وما يغيض هؤلاء يغيض بالضرورة مترفي القول من فلاسفة ومؤرخين وشعراء وكتاب.

ماهية الطغيان:

  ينصرف الطغيان في العربية لغة إلى تجاوز الحد، بينما ينصرف الطغيان اصطلاحاً إلى الحكم المطلق، الذي يسنده عادة مترفو المال والجاه ليعملوا معاً على تضييق دائرة المشاركة في الشأن العام، وليكرسوا لأنفسهم السبل والصيغ التي تمكنهم من تجاوز الحد في استحواذهم على المال والجاه. ويمكننا أن نضيف إليها أيضاً الاستحواذ على وسائل الانتاج، ووسائل الإعلام والتعليم، وعلى الفنون والآداب، وكافة المقومات والأدوات التي من شأن السيطرة عليها استدامة هيمنة تلك الشريحة على المال والجاه وعلى العامة، وإلحاق الضرر بمن يقع عليهم فعل الاستحواذ أو الطغيان. غير أنّ الفلاسفة والمؤرخين في اليونان وروما قصروه على الحالة الي يتولي الحكم فيها رجل من الأشراف بدعم من العامة؛ فكيف لمن لا أموال له ولا يساهم بدفع الضرائب، ولا يمتلك أراضي زراعية، ولا ينتمي للأسر الغنية، ولا للنبلاء أو الأشراف أن يكون له دور أو رأي فيمن يتولى الحكم؟ الذي ينبغي أن يكون وقفاً على مجلس الشيوخ الذي يضم نبلاء الأرض ونبلاء المال ودافعي الضرائب.

  وينصرف الطاغية لغة إلى الذي يتجاوز الحد، واصطلاحا إلى الحاكم التي ينتزع السلطة بالقوة وبدعم من العامة وبدون مباركة النبلاء والأشراف. غير أنّ الطاغية الحقيقي ينصرف إلى الحاكم المطلق الذي يعزز مصالح مترفي المال والجاه، على نحو يتجاوز الحدود سواءً كان ملكاً أو حاكما جمهورياً، وعادة ما ينصبه هؤلاء من خلال مجلس شيوخ أو حتى مجلس نواب شكلي، ينفذ مشيئة الأغنياء التي تتقرر خارج المجلس، ثم  يصدرها المجلس لإضفاء الطابع الدستوري عليها.

  أما ربط الفلاسفة والمؤرخين منذ أرسطو وهيردوت وإلى اليوم، وكذلك مراكز صنع السياسات والقرارات ووسائل الإعلام في الغرب للطغيان بالفرد: فهو مجرد أسطورة أو فزاعة تحذر العامة من الاستجابة لنداء الثورة، الذي سيؤدي حتما وفقاً لهؤلاء إلى طغيان الفرد على الجميع دون استثناء، وبما في ذلك العامة والفقراء الذين صنعوا الثورة بتحريض من الطاغية؛ فالذي يصل إلى السلطة من خلال دغدغة عواطف العامة، أو الذي يوزع الأراضي الزراعية المملوكة من الدولة على الفقراء حين يكون في السلطة يتخذ خطواته الأولى باتجاه الطغيان! أو أنه به لوثة أو نزوع للطغيان! في حين أن الفرد لا يستطيع أن يكون طاغية إلاّ عندما يتقاسم النفوذ مع مترفي شريحة اجتماعية ما وعادة ما تكون من مترفي المال والجاه في الملكيات المطلقة، بينما يسود طغيان مترفي المال والجاه في الأنظمة الدستورية التي صاغ دساتيرها الطرف الغالب والمهيمن في المجتمع والذي يمثله مترفو المال والجاه والقول عادةً حتى في غياب سطوة الفرد. أما حين يقود الفرد العامة والفقراء في ثورة تعيد توزيع الثروة لمصلحة الفقراء فإنه عندئذ سيتم وضع حد لطغيان مترفي المال والجاه، وغالباً ما تظهر مجالس للعامة تتقاسم السلطة مع الفرد، غير أنّ مترفي المال والجاه والقول لا يسوغ لهم أن يكون الحاكم من غيرهم، ولا يسوغ لهم أن يصبح كل واحد مثل كل واحد، وأن لا تحفظ المقامات؛ فيصبح صوت النبيل والشريف ودافع الضرائب ومالك الأراضي الزراعية، مثل صوت الكناس والحمال والمستأجر جهده وحتى مثل العتقاء من العبيد! بل وقد يصبح هؤلاء ملاكاً لأصول حقيقية أو مالية وزعها عليهم الطغاة. وهذا ما لا يحتمله نبلاء المال والجاه ويعتبرونه كالكوارث الطبيعية أو كاختلال الجاذبية وانفراط عقد المجرة الشمسية!

 والقرآن يشير إلى الطغيان في مواضع محددة ترتبط بمترفي المال والجاه فالله تعالى يقول: ﴿ كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ﴾(96/6-7)، ويقول: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ﴾(28/76)، والبغي مرادف للطغيان، ويقول: ﴿ ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ ﴾(20/24)، وفرعون رغم نعته بالطغيان لم يكن يبث في أمر دون موافقة مترفو المال والجاه ومترفو القول الذين خاطبهم فرعون بقوله: ﴿ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾(26/35).

  ومع أنّ خطاب السماء يربط الطغيان بمترفي المال والجاه، وحتى حينما وصم القرآن فرعون بالطغيان لم يصم حاكم أتى إلى الحكم بدعم من العامة بل وصم ملكاً ورث الملك من أسلافه الملوك ولم يتولى بطريق تخالف الدستور السائد في زمنه. غير أنّ النخب المستحوذة على المال والجاه والقول في أوروبا قديماً وحديثاً اعتبرت الطاغية هو الحاكم الذي لم يمنحه مترفو المال والجاه ثقتهم، ولم يأت إلى السلطة من خلالهم. ومصداقاً لذلك: اعتبر مترفو القول من الفلاسفة والمؤرخين الأغريق كلا من ثيجانيز Theagenes الذي حكم مجارا، وبيسستراتس Peisistratos الذي حكم أثينا على سبيل المثال لا الحصر طغاة، لا لشيء إلاّ لأنهما وصلا إلى الحكم بدعم من العامة، ولم يصلا إلى الحكم عبر التوريث أو عن طريق مجلس الشيوخ الذي يضم نبلاء المال أو نبلاء الأرض الزراعية. وقام الأول بتحرير العبيد أو الأقنان، وقام الثاني بتوزيع الأراضي الزراعية على العامة والفقراء والذين لا يملكون سوى جهدهم؛ إذ يقول د. لبيب عبد الستار:” والطاغية في عرف الإغريق حاكم انتزع الحكم بالقوة، واستبد من أجل الخير لا الشر هكذا كان بيسستراتس وهو قائد عسكري اتكل على الفئات الشعبية في الوصول إلى الحكم”([2]). وهذا النزوع لدى فلاسفة ومؤرخي الإغريق يبرره انتماؤهم إلى مترفي القول الذين تجمعهم مصالح مشتركة مع مترفي المال والجاه ومن ثم فهم يضيرهم أن يتولى السلطة أو الحكم رجل حظي بدعم العامة، وعمل على الحد من استحواذ مترفي المال على الأرض الزراعية على نحو خاص وعلى المال على نحو عام. وخاصة حين يقوم بإجراء إصلاحات زراعية ترمي إلى توزيع أراضي الدولة على العامة أو الفلاحين الذين لا يملكون أرضاً، أو حين يجري إصلاحات سياسية تستهدف توسيع دائرة المشاركة السياسية لتشمل العامة والعبيد، والمهاجرين من بقية المدن اليونانية الذين لم يمنحهم مجلس الشيوخ حقوق المواطنة رغم طول مكوثهم بالمدينة، ومن يفعل ذلك ينعته فلاسفة اليونان ومؤرخوهم بالطاغية! ويعتبرون حكمه ليس دستورياً فهو لم يأت إلى الحكم عبر مجلس النبلاء أو الشيوخ. وعلى الرغم من أنّ بيسستراس احتفظ بدستور صولون، ولم يدخل عليه سوى تعديلات طفيفة إلاّ أنه اُعتبر طاغية، واعتبرت تشريعاته غير دستورية([3]).  

  وكذلك ينصرف الطاغية لدى مؤرخي وفلاسفة الرومان إلى من أتى إلى الحكم بدعم من العامة، ولم يأت عن طريق التوريث أو من خلال مجلس الشيوخ. وتعامل الرومان بقسوة مفرطة سواءً مع الذين جاءوا إلى الحكم بدعم العامة، أو حتى الذين رشحهم مجلس الشيوخ، ثم أظهروا نيتهم كسب رضى العامة من خلال محاولة توزيع الأراضي الزراعية عليهم، أو من خلال تشكيل مجالس لهم موازية لمجلس الشيوخ؛ حيث قُتل في عام 486 ق. م القنصل اسبيوريوس كاسيوزس Spurius Cassius لأنه اقترح توزيع الأراضي التي استولت عليها روما بالحرب على الفقراء، فاتهمه الأشراف بأنه يتحبب إلى الشعب ليكون ملكاً أو طاغية. وفي عام 439 ق. م قتل اسبيروس ميليوس Spurius Maelius لمجرد توزيعه القمح بأسعار مخفضة أو مجاناً خلال قحط أصاب روما، وأتهم أيضاً بأنه كان يتحبب إلى العامة لينصب ملكاً أو طاغية. وفي عام 384 ق. م قتل ماركس مانليوس Marcus Manlius بالحجة نفسها([4]) وفي أعقاب انتصارات كبيرة حققها في مواجهة الغزاة اليونان، ذلك أنه أنفق ماله لسداد ديون العاجزين عن السداد!

  والملفت للنظر هذه المقاومة الشرسة لمترفي المال والجاه في التاريخ الأوربي، لأي نزوع للتقليل من امتيازاتهم، أو حتى لتمكين العامة والفقراء من أي نوع من أنواع الثروة أو الجاه؛ حيث لا يقبل مترفو المال مطلقاً مشاركة العامة والفقراء لهم في المال، حتى لو كان هذا المال هو مال الدولة، وهم على استعداد حتى لتدمير الدولة على طريقة شمشون الجبار “عليّ وعلى أعدائي يا رب “، من أجل إيقاف أية محاولة لمساواتهم بالعامة، أو حتى مجرد إشراك العامة معهم في حق اختيار الحاكم. ويستميتون في منع ذلك حتى لو أدى بهم الأمر إلى التآمر مع الأعداء إن أقتضى الأمر. ويأتي ذلك فقط للحيلولة دون مساواتهم بالعامة والفقراء، والذين لا يملكون سوى جهدهم، حتى وإن لم يخسروا ما بأيديهم من أراضي زراعية وأموال. وهو ما ينسحب على مترفي المال والجاه خارج أوربا، ويشاركهم في ذلك مترفو الجاه، وكذلك مترفو القول كالفلاسفة والكتاب الذين يتمتعون بالحظوة والعيش المرفه، في ظل حكم مترفي المال والجاه، وعادة ما يخسرون امتيازاتهم في ظل حكم العامة والفقراء الذين يحلمون بإنهاء الامتيازات، والمساواة بين الجميع في المواطنة والمكانة والثروة، وهو ما يقض مضجع النخب المسيطرة على المال والجاه والقول، والتي يسميها القرآن بالمترفين مترفو المال والجاه والقول. وقد يقول قائل بأن في الأمر تحامل على النخب المثقفة، غير أنّ هؤلاء هم من حاجّ الرسل عليهم السلام، وتصدى لدعواتهم فقالوا للنبي موسى عليه السلام:﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً ﴾(2/55) وقالوا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ ﴾(6/124)، و﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً ﴾(17/90-91)، و﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ ﴾(17/93). و﴿ وَقَالُواْ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ﴾(25/7). وحين مات الرسل عليهم السلام تولى مترفو القول تحريف الكلم عن مواضعه، وكتمان ما أنزل الله تعالى، وقالوا إن الله ثالث ثلاثة، وإن عيسى عليه السلام ابن الله سبحانه وتعالى عما يصفون. بينما لا يقاتل العامة والفقراء والعتقاء من العبيد بشراسة، دفاعاً عن الحقوق التي يكتسبونها بعد أن ينجحوا في دعم أحد منهم، أو حتى من النبلاء للوصول إلى الحكم، ذلك أن مكاسب العامة والفقراء قليلة نسبياً؛ وذلك لكثرة عددهم فلو تصورنا أنهم مليون؛ فإن كل واحد منهم سيتحصل على واحد من المليون من الثروة الموزعة، أو واحد من المليون من الحظوة السياسية، فلا تشكل له حافزاً يستعد للموت من أجله، بل وقد يصاب العامي بالإحباط بعد الثورة وذلك لرفعه سقف امنياته وأحلامه، إذ يتصور أنه سيكون في مستوى النبلاء قبل التغيير، وهو ما لا يتأتى فالترف الذي يحوزه النبلاء كان متأتياً من حرمان العامة. وحين تُقتسم الثروة الوطنية بطريقة أعدل، فلا مجال لأن يعيش أحدهم حياة النبلاء، بل سيعيش الجميع حياة تليق بكرامة الإنسان فحسب. ثم إنه وللأسف ما أن يتحصل أحدٌ من العامة على أرض زراعية أو أموال من الدولة في زمن الثورات، ويتمكن من تنميتها ويصبح ثرياً حتى يركن إلى مترفي المال ويفرح بأنتمائه إليهم وينقلب على العامة.         

  ومع ذلك ينبغي التسليم بإنّ أولئك الذين يتقدمون صفوف العامة عند قيامهم بالثورة، قد ينزلقون للتطرف في مواجهة مترفي المال والجاه ومترفي القول، ومن دخل في خدمتهم أو تحالف معهم من العامة، بتأثير نزعة الانتقام من القهر الذي مورس عليهم من قبل نبلاء المال ونبلاء الجاه ونبلاء القول، وهو ما يسميه علماء النفس بسيكولوجية الإنسان المقهور؛ فيسجل لهم المؤرخون تجاوزات مشينة قد تسوغ نعتهم بالطغاة. غير أنهم قد يجدون أنفسهم مضطرين إلى ذلك لشراسة مقاومة اولئك الذين فقدوا امتيازاتهم.

أنواع الطغيان:

  للطغيان أشكال شتى لا تحظى باهتمام الدارسين تتمثل في:طغيان نبلاء المال، وطغيان نبلاء الجاه، وطغيان القبيلة، وطغيان الطائفة، وطغيان العسكر، والطغيان العرقي، والطغيان الديني، وطغيان الأغلبية، وطغيان المليشيات، وأخيراً الطغيان الاستعماري. لن نتوسع في شرحها في هذه العجالة غير أننا قد نفرد لها مقالات لاحقة إن أمكن ذلك.    

الشرق والاستبداد:

  روج فلاسفة ومؤرخو الغرب لأسطورة الاستبداد الشرقي، وقام مؤرخو الغرب وفلاسفته بإعادة صياغة تاريخ اليونان والرومان وتاريخ البشرية، على نحو يظهر مركزية الحضارة الغربية، وتقدمها على الحضارات غير الأوربية في كل شيء، وعلى نحو خاص في نزوعها للديمقراطية والحرية ليزعموا بأنهم العالم الحرّ، مع الأخذ في الاعتبار أن ما يعدونه ديمقراطية في حواضر اليونان والرومان، ليس سوى طغيان مترفي المال والجاه على العامة كما أسلفنا، وأن الفترات القصيرة التي وصل فيها الحكام عن طريق العامة، هي التي تمثل الديمقراطية الحقة والتي نعتوها بحكم الطغاة. ولمناقشة هذه الأسطورة دعنا نلقي نظرة على تاريخ بعض الحضارات الشرقية الرئيسية، ومع الإشارة إلى إننا هنا سنستخدم نفس المعايير التي استخدمها فلاسفة ومؤرخو الغرب للديمقراطية: ولنبدأ من الحضارتين السومرية والبابلية والتي كانت أكثر ديمقراطية من الحضارة الرومانية بمقاييسهم فكان بها جمعية نيابية من المواطنين الاحرار تضم مجلس الاعيان ومجلس العموم([5]) ولقد أشار وول ديورانت إلى وجود مجلس للشيوخ في الحضارة المصرية القديمة، غير أنه قلل من أهميته ودوره وقال بأن قراراته غير ملزمة للفرعون أو الملك([6]) ، وهذا ديدن فلاسفة ومؤرخي الغرب: إبراز الجوانب الإيجابية في تاريخ الحضارات الأوربية، والسكوت عن السلبية منها. وإبراز الجوانب السلبية للحضارت الأخرى، والسكوت عن الجوانب الإيجابية فيها أو التقليل من أهميتها. وكذلك تحققت هيمنة الأشراف أو نبلاء المال على الحكم من خلال مجلس الشيوخ في الحضارة الفينيقية ([7]) وعلى نفس الشاكلة التي كانت لدى الرومان. وكانت طريقة إدارة دفة الحكم في قرطاج أكثر ديمقراطية من روما؛ حيث كان أهلها يجتمعون في جمعية وطنية من حقها أن تقبل أو ترفض ما يعرضه عليها مجلس الشيوخ من اقتراحات([8]). وكان عرب الجزيرة يفاخرون بأنهم شعب حر، لا يقبل أن يخضع لملك كما يخضع الرومان للقيصر ويخضع الفرس لكسرى، وكان لقريش داراً للندوة يجتمع فيها شيوخها ليقرروا شؤونها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقطع أمراً من أمور الدنيا إلاّ قال لأتباعه أشيروا عليّ، وأقام الأمويون والعباسيون شورى أهل العقد فكانت معززة لسطوة أهل المال والجاه، ولا تختلف كثيراً عن سطوة مجلس الشيوخ. وكانت أغلب بلدان الشرق محكومة بأنظمة اللا دولة الأكثر ديمقراطية من الحضارتين اليونانية والرومانية والديمقراطيات الغربية كما أشار إلى ذلك روجيه غارودي في كتابه حوار الحضارات([9]). ومع التسليم جدلاً بوجود ملكيات مطلقة في كل من الصين والهند واليابان تقابلها ملكيات مطلقة عديدة قامت في بريطانيا وفرنسا وألمانيا والنمسا والمجر “الإمبراطورية المجرية النمساوية”. ثم إنّه حتى الديمقراطيات المعاصرة التي نشأت في الغرب، ليست سوى إعادة انتاج ورسكلة لطغيان مترفي المال والجاه، ولمجالس الشيوخ الإغريقية والرومانية؛ فهي وإن اعطت للعامة حق اختيار النواب، إلاّ أن النواب ظلوا ينتمون لمترفي المال والجاه والقول، فلا أحد من العامة والفقراء يستطيع تمويل دعايته الانتخابية، وحتى إن نجح أحد من المنتمين للطبقة الوسطى للوصول للبرلمان، فإن ذلك سيكون بتمويل من مترفي المال، ومن ثم فلن يعبر إلاّ عن مصالح الذين مولوا دعايته الانتخابية، أو اشتروا صوته بالمجلس من خلال تلبية احتياجاته الحياتية وتطلعاته ليعيش حياة النخب لا العامة. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا: أين يضع فلاسفة الغرب ومؤرخوه ومن سار على منوالهم من فلاسفتنا ومؤرخينا، قيادة الأنبياء والمرسلين لأقوامهم أو مجتمعاتهم وعلى نحو خاص موسى ومحمد عليهما السلام؟ أفي خانة الطغاة الذين لم تفوضهم مجالس الشيوخ ومترفو المال والجاه، أم في خانة القادة الديمقراطيين؟  

  وفي ختام هذه العجالة لابد لنا من التعرض إلى كتاب د. إمام عبد الفتاح إمام المعنون بالطاغية([10])؛ وإذ  نحيي مجهوداته على نحو عام، وفي ترجمة مساهمات هيجل الفلسفية على نحو خاص. إلاّ إن كتابه هذا بدأ وللأسف وكأنه لمستشرق غربي، فهو مليء بالاستعلائية على الحضارات الشرقية، والتمجيد بدون حدود للحضارات الغربية والفكر الغربي، ويردد بلا توقف نظريات الغرب وتأويلاته لأسباب الاستبداد الشرقي. ولعل من أغرب النظريات التي أعطاها الدكتور إمام أهمية بالغة في كتابه هي نظرية فيتفوجل التي تربط الاستبداد الشرقي بالحضارات النهرية وحاجة المجتمعات النهرية لسلطة مركزية، وتناسى كلاهما بأن الحضارات الغربية جميعها قامت على أنهار. وعلى طريقة فلاسفة اليونان ومؤرخيهم نال كثيراً من تجربة عبد الناصر لا لشيء، إلاّ لأنه لم يأت إلى السلطة عبر مجالس نبلاء الأراضي الزراعية في مصر، ولم يكن سليل أسرة ملكية، ثم إنه انتزع الأراضي من نبلاء الأراضي الزراعية في مصر ووزعها على الفلاحين الذين لا أرض لهم، وأسس تحالف قوى الشعب العامل، وجعل له الكلمة الفصل في السياسة المصرية. فالدكتور إمام ينتمي إلى مترفي القول ولعله ينتمي لمترفي المال أيضاً، ويضيره أن يأتي إلى الحكم من لا ينتمي لأصحاب الأطيان، وأن يجعل أمر تحديد السياسات في مصر للعامة وليس للأغنياء. وهو يعبر في ذلك عن مأزق النخب المثقفة في البلاد العربية، التي لا تطيق أن تتساوى بالكناسين والحمالين والفلاحين وعمال الورش، ولا أن يحضروا مجالسهم في الوحدات الأساسية للاتحاد الاشتراكي التي تفوح منها رائحة العرق، ولا يكاد يُرى فيها أحد من أصحاب الياقات البيضاء. ويتساوى في ذلك مترفو القول سواءً المنتمون منهم إلى اليسار أو إلى اليمين. ثم إن الدكتور إمام الذي عاش فترة من حياته في الخليج؛ فأته أن يُضمن كتابه كلمة واحدة عن الملكيات المطلقة والاستبدادية في الخليج وجزيرة العرب، ليعزز بها أطروحته الغربية عن الاستبداد الشرقي.

  نخلص من ذلك إلى أن طغيان مترفي المال والجاه، لا يكاد تخلو منه حضارة من الحضارات، لكنه أكثر رسوخاً في الحضارات الأوربية والغربية، واقصر ظهوراً في الحضارات الشرقية على نحو عام، وفي منطقة جنوب وشرق المتوسط على نحو خاص. إذ يتخلل منطقة جنوب وشرق المتوسط فترات أطول نسبياً من غيرها، يتحرر فيها العامة من سطوة مترفي المال والجاه، تأتي على رأسها أزمنة النبوات والرسالات السماوية التي شهدتها المنطقة.                   


[1] – اسطورة يونانية تتحدث عن قاطع طريق كان يضع ضحاياه على سريره فمن كان أطول قطع منه ما يفيض على السرير وإن كان  أقصر جذبه بالحبال حتى يصل الى طول السرير. 

[2] – د. لبيب عبد الستار، الحضارات، دار المشرق- بيروت، 1974.

[3] – وول ديورنت قصة الحضارة، ترجمة د. زكي نجيب محمود، المجلد السادس،  دار الجيل، 1988، ص 220-226.

[4] – وول ديورنت مرجع سابق، المجلد التاسع، ص 50..

[5] – جون اوتس، بابل تاريخ مصور، وزارة الثقافة العراقية، ترجمة سمير الجلبي، 1990.

[6] – وول ديورانت، مرجع سابق، المجلد الثاني ص 94

[7] – د. لبيب عبد الستار، مرجع سابق، 

[8] – وول ديورنت، مرجع سابق، المجلد التاسع، ص91.

[9] – روجيه غارودي، حوار الحضارات،

[10] – د. إمام عبد الفتاح إمام، الطاغية، مكتبة مدبولي،ط3،1997.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :