- موسى الأشخم
تزدحم الشاشات العربية على نحو عام وقنوات الجزيرة والعربية والميادين على نحو خاص منذ حوالي عقد من الزمان، بالعديد من المحللين والنشطاء السياسيين، غالبيتهم يحملون مؤهلات عالية ومن جامعات غربية ويرتدون بدلات وربطات عنق فاخرة، ويتكرمون بتنوير العامة حول قضايا الساعة، وفي قطب الرحى منها نيران الحروب الأهلية والطائفية، التي اندلعت كجزء من مشروعات عبء الرجل الأبيض لنشر الديمقراطية في المنطقة العربية والإسلامية، وتحديداً تلك المسماة غربياً بالشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا. غير أن المتتبع لهذه التحليلات يكتشف أنها مجرد ترديد لما يقوله الغربيون الذين هم في الغالب مجرد مجندون ضمن الجوقة الإعلامية المصاحبة لحروب الجيل الرابع وما بعدها. ودعنا هنا نتناول ما تكرم به علينا هؤلاء المحللون فيما يتعلق بالمسألتين السورية والليبية:
أولاً- الحرب الأهلية السورية:
سنتناول المسألة السورية في لحظة فارقة من الزمن، وهي التي تراجعت فيه الإدارة الأمريكية عن توجيه ضربات جوية إلى سوريا، بل ووجهت الدعوة إلى إيران للتفاوض حول برنامجها النووي، وما ترتب عنه من سرعة إنجاز الاتفاق، وكذلك سرعة رفع العقوبات عنها. وينقسم المحللون السياسيون في العادة تجاه أية قضية سياسية إلى طرفين: وفي الحالة السورية طرف مع الحكومة وطرف مع المعارضة؛ حيث دارت التحليلات السياسية للمؤيدين للحكومة السورية، وخاصة حين تراجعت أمريكا عن توجيه ضربات جوية إلى سوريا، بل وتوصلت بمعية بعض القوى الكبرى في العالم إلى اتفاق مع ايران حول ملفها النووي، حول النقاط التالية:
- تردد الإدارة الأمريكية في ظل إدارة أوباما وضعفها بل وتخبطها في معالجة الملف السوري.
- المبالغة في تقدير قوة ايران وظهورها كلاعب إقليمي يحسب له الغرب وأمريكا ألف حساب!
- تضخيم محور المقاومة الإيراني السوري االنصراوي” نسبة إلى حسن نصر الله” .
- تضخيم الصمود السوري ضد المسلحين المدعومين من الغرب والبترودولار.
- إدراك الغرب لخطورة الحركات الجهادية وكونها أشد خطراً من النظام السوري ومحور المقاومة!
- تنامي الدور الروسي على الصعيد الدولي وهو ما يشير إلى تحول العالم من الأحادية القطبية إلى التعددية القطبية.
بينما دارت تحليلات المناوئين للحكومة السورية حول النقاط التالية:
- تخلي المجتمع الدولي عن الثورة السورية.
- تردد الإدارة الأمريكية في ظل إدارة أوباما وضعفها بل وتخبطها في معالجة الملف السوري.
- انشغال الغرب بقضاياه المحلية في أعقاب الأزمة المالية التي تعرض لها.
- استبعاد الحل العسكري.
ودعنا نبدأ بمناقشة تحليلات الطرف الأول لنقول بأن الأمر لم يكن كذلك، بل إن الدوافع الحقيقية وراء ما يبدو أنه تردد أمريكي في دعم المعارضة السورية، يكمن في العمل على إطالة أمد الحرب الأهلية والطائفية في سوريا إلى أقصى مدى. وإطالة الحرب أي حرب يقتضي الحفاظ على التوازن في القوة بين طرفي النزاع؛ ومن هناك فالتراجع عن الضربات الجوية الأمريكية، لم يكن خوفاً من الدفاعات الجوية السورية، ولا من التهديدات الإيرانية بتوسيع دائرة الحرب لتشمل حلفاء أمريكا في المنطقة، ولا مراعاة لروسيا وتسليماً بدور لها في المنطقة، بل كان بسبب الخوف من اختلال توازن القوى في سوريا بين النظام والمعارضة المسلحة. وأي اختلال في التوازن من وجهة النظر الغربية يهدد بإنهاء الحرب فيها، وهو ما يخشاه الغرب الذي يهدف من خلال صناعته لحروب أهلية في المنطقة، إلى توطين الإرهاب في بلدان المنبع، والحيلولة دون انتقاله لبلدان المصب من جهة، ومن جهة أخرى يهدف إلى تبديد ثروات العرب النفطية في غير فرص النهوض الاقتصادي والعلمي. بل والحيلولة دون وضع قطار النهوض العربي على السكة كما يهدف إلى تعطيل القنبلة البشرية العربية التي اقلقت هنتنجتون، واقلقت الغرب الذي يرى في نهوض العرب والمسلمين تهديداً للحضارة الغربية. والمراقب لمجريات الحرب الأهلية السورية وردود فعل الإدارة الأمريكية، يلاحظ هذا الحرص الأمريكي على إدامة الحرب السورية؛ فحين كانت المعارضة على بعد خطوات من جبل قاسيون حيث قصر الأسد، صار الأمريكيون يقللون من دعمهم للمعارضة سواء على نحو مباشر أو بالواسطة، بذريعة أنهم يخشون أن تقع أسلحتهم في أيدي المتطرفين! الذين صنعوهم ودعموهم لتحويل بلدان المنطقة إلى بلدان فاشلة.
وهذه السياسة، وهي سياسة صناعة الحروب الأهلية والعمل على إطالة أمدها؛ هو ما دفع الولايات المتحدة والغرب للتهافت على الاتفاق مع إيران، والإسراع برفع العقوبات عنها. ذلك أن مقتضيات خلق التوازن في ميادين المعارك في سوريا يتطلب التوازن في القدرات التمويلية، ومن هناك سارع الغرب للاتفاق مع إيران حول ملفها النووي ليجد الذريعة المناسبة لرفع العقوبات عنها، وهي التي كانت تحد من قدراتها التمويلية للحرب في سوريا. حتى أنني أكاد أجزم بأنّ الغرب آنذاك كان على استعداد لرفع العقوبات من أجل مد النار في سوريا بالزيت الإيراني حتى بدون أية تنازلات إيرانية في ملفها النووي.
وحتى القول بأنّه ثمة اتفاق دولى حول استبعاد الحل العسكري للأزمة هو قول غير صحيح، وحين يصدر عن القادة الغربيين فلا يتجاوز النفاق السياسي والتعمية، أمّا حين يصدر عن محلل عربي فلا يتجاوز أحد أمرين: أن يكون المحلل جزءا من الجوقة الأعلامية المصاحبة لحروب الجيل الرابع، أو أن يكون منخدعاً بهذا النفاق؛ فمباحثات جنيف ومؤتمر مدريد لم يرم منظموه إلى الوصول إلى اتفاق، بل هو كمباحثات السلام الفلسطينية الإسرائيلية، تعقد من أجل تجميل الوجه الامبريالي القبيح للساسة في الولايات المتحدة والغرب، وإظهارهم بالمظهر الإنساني والحريص على إطفاء نيران الحروب، في الوقت الذي يصبون عليها الزيت. أمّا القول بأنّ الغرب قد ادرك خطورة الحركات الجهادية وكونها أشد خطراً من النظام السوري ومحور المقاومة فهو قول متهافت، وقد يردده بعض الغربيين لإخفاء أجندته الحقيقية في المنطقة؛ فالغرب مدرك سلفاً لخطورة بعض تلك الحركات، لكنها تعد الأفضل بالنسبة له في سرعة إشعال الحروب وتوسيع مجالها وإطالة أمدها، ومن ثم فهو يستخدمها وسيستخدمها في كل مكان يخطط لإشعال النيران فيه، فهي كفرانكشتاين مدمرة ومحرقة، لكن الغرب يريد أن يُشغله بالتدمير خارج حدوده وحيث يريد، وهو قد قرر تدمير المنطقة العربية على ساكنيها ودون استثناء. وكذلك القول بتنامي الدور الروسي على الصعيد الدولي، وإنّ العالم يتحول من الأحادية القطبية إلى التعددية القطبية. فيه شيء من الحقيقة وكثير من المبالغة؛ ذلك أن الطرف الداعم للحكومة السورية طرف مستضعف من الولايات المتحدة والغرب، ويعاني كثيراً من اختلال التوازن الدولي، ويحب أن يرى عالماً متوازناً ومتعدد الاقطاب فيرى ما يحب، دون أن يكون له ما صدق بلغة أهل المنطق. فروسيا تستعيد عافيتها، وصارت قادرة على أن تقول لا للولايات المتحدة والغرب، ولكن ليس إلى درجة استعادة التوازن الدولي وتحول العالم إلى التعددية القطبية، بل أنّ فرنسا وألمانيا فقدتا القدرة على قول لا للولايات المتحدة، وإن محتشمة، كتلك التي قيلت عشية الحرب على العراق.
أما إذا انتقلنا إلى تحليلات الطرف الثاني فإننا نقول بأنّ المجتمع الدولي المختطف من الولايات المتحدة والغرب، لم يكن راعياً للثورة السورية ليتخلى عنها، إنما هو مجرد مستثمر لقوى المعارضة، وجماعات الإسلام السياسي لتفكيك الدولة السورية فحسب، ولا يهمه لا الشعب السوري ولا الثورة السورية، بل هو يخوض الجيل الرابع من الحروب ضد سوريا، وهذا الجيل من الحروب يعتمد على توظيف المعارضة وجماعات الإسلام السياسي، لتفكيك الدولة وتدميرها والحيلولة دون نهوضها من جديد. أما الحديث عن تردد الإدارة الأمريكية زمن أوباما فهو قول يردده الجمهوريون لإغراض انتخابية وليس له ما صدق؛ فإدارة أوباما حولت الدول المستهدفة إلى دول فاشلة بجدارة، ولم تتردد في صناعة خطوط انتاج لحروب أهلية تدوم طويلاً، ودون أن تنفق دولاراً واحداً أو تخسر جندياً واحداً. وحتى القول بأن الولايات المتحدة والغرب انشغلا بالأزمة الاقتصادية التي نشأت بفعل أزمة الرهن العقاري لا ما صدق له؛ فحروب الجيل الرابع لا تمول من مطلقيها، ولا تخوضها جيوش الدولة أو الدول التي خلقتها، ومن ثم فلا أثر للأزمة على لعبة الموت في سوريا. أما استبعاد الحل العسكري فيتحدث عنه صانعو السياسات وصانعو القرار في الولايات المتحدة والغرب، وذلك لمجرد الحرص على أخفاء الجريمة؛ فهم يتظاهرون بأنه لا علاقة لهم بلعبة الموت في سوريا، وينصحون الأطراف المتصارعة بالجلوس للتفاوض، وأن الحل العسكري بعيد المنال أو لم يعد مجدياً، وقد يحذرون من تحول الثورة السورية إلى حرب أهلية أو طائفية وهم يديرون دفتها تجاه ذلك الهدف تماماً.
ثانياً- المسألة الليبية:
سنتناول المسألة الليبية في لحظة فارقة من الزمن وهي التي قام فيها حفتر بمهاجمة طرابلس بذريعة تحريرها من الميليشيات. وانقسم المحللون السياسيون تجاه هذه القضية إلى طرفين: طرف مع حكومة الوفاق وطرف مع حفتر ودارت التحليلات السياسية للمؤيدين لحكومة الوفاق في بدايات الهجوم، الذي تزامن مع وجود غوتيرس في طرابلس، ومع اتصال ترامب هاتفياً مع حفتر، حول النقاط التالية:
- تواطؤ المجتمع الدولي والقوى الكبرى مع حفتر.
- استعداد حفتر لبيع ليبيا إلى داعميه الروس وغيرهم.
- الحرص المصري الأمارتي على الهيمنة على خيرات ليبيا.
- تدني أهمية النفط الليبي في ظل استبداله بالنفط الصخري والتدني المتواصل لإسعاره.
بينما دارت تحليلات المحللين السياسيين المناوئين لحكومة الوفاق حول النقاط التالية:
- لقد أدرك العالم خطورة الميليشات الإرهابية التي تستعين بها حكومة الوفاق.
- لقد أدرك العالم حجم الفساد المالي والإداري لحكومة الوفاق التي تحمي تجار البشر ومهربي النفط.
- لم يعد العالم يقبل استخدام عائدات النفط لتمويل الإرهاب.
- تنبه العالم إلى خطورة الإسلام السياسي على نحو عام وجماعة الإخوان المسلمين على نحو خاص.
ودعنا نبدأ بمناقشة تحليلات الطرف الأول، إذ لم يكن الأمر على النحو الذي قيل؛ بل أنّ مكالمة ترامب الهاتفية وتغريدته المشيدة بجنرال ليبيا القوي، لم تكن سوى الطعم الذي يجعل حفتر يتصرف على طريقة صدام حسين حين أحس بعدم معارضة الإدارة الأمريكية لدخوله الكويت، مع بعض الاختلاف في التفاصيل؛ فترامب لن يدفع بجيشه لتحرير طرابلس من سيطرة حفتر لو تحققت، غير أن سيناريو صناعة القتل والحروب الأهلية الأمريكي الغربي في ليبيا يرمي إلى صناعة حرب أهلية لا تتوقف، فعلى شاكلة السيناريو السوري؛ غير مسموح لأحد الأطراف أن يقضي على الأخر، فلا حفتر ينبغي أن يسيطر على العاصمة، ولا قوات الوفاق ينبغي لها أن تتجاوز قوس ماركوس أورليوس شرق سرت، إذ أن متطلبات إدامة الحروب الأهلية تقتضي عدم السماح لأي طرف بتحقيق النصر وسحق الطرف الأخر، لأسباب عديدة تتعلق بحروب الجيل الرابع وما بعدها؛ فالهدف النهائي لهذه الحروب العبثية الإبادة الجماعية للعرب والمسلمين الذين يشكلون خطراً على الغرب والعالم، فهم يقولون بأنهم سيقاتلون غير المسلمين حتى يشهدوا أن لا أله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، ولهم طاقة قتالية عالية لا يضاهيها فيهم إلا اليابانيون والتي تتلخص في الاستعداد للتحول إلى قنابل بشرية تموت وتقتل من خلال العمليات الاستشهادية، ولهم موارد ضخمة تراها الأقمار الصناعية ولا يرونها هم، ثم إن لهم موقع استراتيجي من يسيطر عليه يمكنه السيطرة على الكوكب. وإجمالاً فلا المجتمع الدولي متواطئ مع حفتر، ولا النفط الليبي تراجعت أهميته؛ فالعوامل التي أدت إلى انخفاض أسعار النفط عوامل مؤقتة وليست دائمة. ولا مصر ولا الإمارات طامعين في خيرات ليبيا بل كلاهما ينفذ بكفاءة الدور الذي أعطاه له المخرج الأمريكي، سواءً بوعي منه أو بدون وعي؛ إذ قد يكون الدافع الرئيسي لدعم السيسي لحفتر هو تخوفه من خطر سيطرة الإخوان على ليبيا ليس إلاّ. ومخطئ من يظن أن الولايات المتحدة تنحاز إلى طرف دون أخر؛ بل هي التي تمسك بخيوط اللعبة، وتوزع الأدوار في مسرحية جلية لا يراها كاملة من حشر نفسه ضمن فريق واحد أو طرف واحد؛ فهي التي تأذن للداعمين لحفتر بدعمه وهي التي تأذن لداعمي حكومة الوفاق بدعمها. بل وتأمر بتقليص الدعم لهذا الطرف أو ذاك للحيلولة دون توقف الحرب أو توقف المسرحية.
أما إذا انتقلنا إلى تحليلات الطرف الثاني فإننا نقول إن الولايات المتحدة تدرك خطورة المليشيات الإرهابية إدراكها لخطورة السلاح النووي لكنها ترمي إلى استخدامهما في مواجهة خصومها، وتحرص فقط على ألاّ يستخدما ضدها أو ضد مصالحها. وكذلك لا يضير الولايات المتحدة الفساد المالي والإداري حين يكون خارج حدودها، بل غالباً ما يكون مفيداً لها ويخدم مصالحها، أو لنقل يمكن توظيفه لخدمة مصالحها. أما فيما يتعلق بخطورة الإسلام السياسي على نحو عام، وجماعة الإخوان المسلمين على نحو خاص؛ فالولايات المتحدة تدير اللعبة بذهنية رجل أعمال، ومن ثم فهي تستثمر كافة القوى وكافة الظواهر، ولا تحدد مواقفها بناء على خطورة هذه الظاهرة أو تلك، أو هذه الجماعة أو تلك، أو هذه القوى أو تلك، بل على مدى إمكانية الاستفادة منها من عدمه. فهي توظف حتى تجار المخدرات لخدمة مشروعاتها الامبريالية.
وإذا انتقلنا إلى نقطة مفصلية أخرى في الملف الليبي؛ والمتمثلة في التسامح الغربي مع التدخل التركي، الذي كاد أن يقلب المعادلة، ويأذن بتقهقر جيش حفتر عن العاصمة في نظر الموالين لحكومة الوفاق، ركز المحللون على نقطتين أساسيتين: الأولى: رفض الغرب للانفراد الروسي بالملف الليبي. والثانية: استبعاد الحل العسكري. والقول الأول ليس جديداً فالغرب لم يدع الملف الليبي لروسيا، بل يكاد ينفرد به منذ العام 1911م. وهو غير معترض على الحضور الروسي، سواءً في سوريا أو في ليبيا؛ فإشعال الحروب الأهلية يقتضي وجود داعمين بالضرورة. أما القول الثاني فلا ما صدق له، وحتى الجهود الدبلوماسية الغربية لحل الأزمة، لا تختلف كثيراً عن تلك الجهود المبذولة لحل الأزمة الفلسطينية، أو الأزمتين السورية واليمنية؛ فالأمر لا يتجاوز تجميل الوجه القبيح للممارسات الامبريالية الغربية، وحتى إن حصل أتفاق، فسيكون كاتفاقات الطائف والصخيرات والرياض، اتفاقيات ملغومة، تصنع الحروب أكثر مما تصنع السلام. وأخيراً، فإن هذه التحليلات السياسية- ومن الطرفين – تخدم الجهد الغربي لتضليل النخب والعامة عن لعبة القتل التي تدار بجدارة في منطقتنا، حتى وإن لم يدرك ذلك جهابذة التحليل السياسي في بلداننا، وهي البلدان المستهدفة بحروب الجيل الرابع وما بعدها.