القرار

القرار

بقلم :: محمد الزنتاني 
عاد لتوه من جولة ، استنزفت من وقته نصف يوم .
عاد بجراب مملوء حتى الحافة . جراب منبعج ، ذو نتوءات حادة في أطرافه ، لكنه سلس ومنقاد و ذو انحناءات متشابهة عند العنق .
شغل نفسه تماما ذلك الصباح . بحث في كل مكان . تجول في الشوارع الواسعة العريضة . زار الأسواق الحديثة . الأسواق الممتازة . ذات الأضواء الباهرة . جاب الأزقة المنزوية . تفقد المحلات التجارية الصغيرة . ومحلات بيع المواد المستعملة . قلّب أغراضا كثيرة . اشترى بعضها . تكاثرت المقتنيات . ثقلت . فحزم طرف الجراب العلوي وحمله ووضعه على كتفه بعناية . تأمل الطريق للحظات وعاد – مسرعا – مخترقا مسارا مألوفا .


حث الخطى . مستعرضا حمولة الجراب في خياله . ابتسم لبعض ما اقتناه . استغرقه التفكير في البعض الآخر . انسحب من العالم المحيط به . وغاب في تأمل داخلي عميق ، وهو يخب في طريقه متجها إلى البيت .


غرز المفتاح . أداره . تراجعت ظلفة الباب إلى الداخل . دفع الجراب أمامه . دخل . أقفل الباب . توسط الصالة . نكث – على الفور – محتويات الجراب . بعثرها . تأملها بتركيز. تفقد النواقص . أعاد المحتويات إلى مكانها . حمل الجراب ووضعه في زاوية معتمة في إحدى الحجرات . عاد إلى الصالة . وقف قليلا . رجع إلى الحجرة . احضر الجراب . اختار له مكانا . وراء الستائر المدلاّة على النافذة . قرب باب الخروج . شعر بالراحة والأمان . توسط الصالة ، مرة أخرى . ارتمى على إحدى الكراسي . تنهد بعمق . اخرج علبة السجائر . أشعل لفافة . سحب بعمق . نفث الدخان . حلقات جهنمية تشكلت في الفراغ . تأملها . سحب انفاسا أخرى . وقف . وبدأ في تفقد زوايا البيت . أمضى وقتا في البحث الدقيق الحذر والتفتيش المضني الصبور . في الأدراج . على الأرفف . والطاولات والكراسي . تحت الأسرة ، وقطع السجاد المبعثر هنا وهناك . وراء الستائر . بين طيات الأغطية . في ثنايا الملابس . داخل الجيوب . في الأصص ، بين أغصان الزهور البلاستيكية . وراء اللوحات المعلقة على الجدران . في المطبخ . في الحمام . في دار التخزين . كوم كل ما رآه مستفزا ، واستطاع استدراجه . قام بفرزه . تأمل الأكداس وهو واقف . تهالك على أول كرسي بجواره . أرخى جسده . تثاءب . تمطط . غرق في التأمل والتفكير . رتب الخطوات التالية . وشرع في تنفيذ ما تبقى من عمل . ابتدأ بأن جمع كل البطاقات الدالة . طواها . تغضنت . أزال الإطار البلاستيكي الواقي . مزقها . نظر حوله . وقف . ذهب إلى المطبخ . عاد بصحن كبير . وضع فيه النتف . كوم فوقها كل ما عنده من أوراق نقدية . أشعل عود ثقاب . أحرقها جميعا . تصاعد اللهب . ارتفع الدخان إلى فضاء الصالة . فاحت رائحة غريبة . خبت النار . أخرج قلما من جيب الجاكت الداخلي . حرك محتويات الإناء . تصاعد الدخان . فاحت الرائحة من جديد . أكثر نفاذا . اغتال كل الأوراق الرسمية والخاصة . مزقها نتفا . أحرقها هي الأخرى . أعاد الإناء إلى المطبخ . واحضر مكانه كوبا زجاجيا . رمى فيه بقطع النقد المعدنية المكومة في كدس صغير . حمل الكوب . اتجه صوب النافذة . فتحها . الهواء المنعش . استنشق ملء رئتيه . عاوده النشاط . وزال بعض التعب . تأمل الحديقة الجرداء الواسعة . تحسس القطع المعدنية في الإناء ، وأخذ يقذف بها على مجموعات . بحجم قبضة اليد . في كل مكان . على امتداد الحديقة واتساعها . ترك الكوب على حافة النافذة من الخارج . ترك الشباك الخشبي مفتوحا إلى الخارج . وأقفل الشباك الزجاجي من الداخل . عاد إلى الصالة . تأمل الزوايا والفراغات . ذهب إلى الحمام . غسل وجهه . ذهب إلى المطبخ . أعد فنجانا من القهوة . أحضره إلى الصالة . وضعه على الطاولة . ارتمى على أقرب كرسي . أشعل سيجارة . ارتشف القهوة . تنهد براحة . مستدرجا الشعور باللامبالاة . فكر بعمق ، وقرر بثقة :
_ الآن يجب أن ينتهي كل شيء .
_ ..
_ بل الآن انتهى كل شيء .

نظر إلى الساعة المعلقة على الجدار . ضبط الوقت . قاس الفارق عن الموعد المضروب . أطفأ السيجارة . وقف . حمل كرسيا وأسنده إلى الجدار . صعد . نزع الساعة من مكانها . أدارها . أزاح بطاريات التشغيل . أرجعها إلى مكانها . استكانت . توقفت عقاربها عن الحركة . أرجع الكرسي إلى مكانه . أزاح الستائر المدلاّة على النافذة . قرب باب الخروج . حمل الجراب . أحضره إلى وسط الصالة . وضعه على الطاولة . ذهب إلى حجرة النوم . ركع على ركبتيه . انحنى . أزاح غطاء السرير إلى أعلى . سحب الصندوق الكرتوني الباهت اللون . عاد به إلى الصالة . وضعه على الطاولة بجوار الجراب . أخرج منه محتوياته . تفقدها . وجد بعض الأغراض ، جاهزة ، أزاح الغبار عن البعض الآخر ، والتقط منها ما يحتاج إليه . ثم وضعها جميعا في الجراب . الذي بدا منتفخا ، وممتلئً ، وغير قابل للزيادة .
ارتشف آخر ما تبقى في فنجان القهوة . حدق في الفراغ . لم يكن يعرف ما الذي سيحدث . ولم يفكر في ذلك كثيرا . شعر بالتعب . ألم في العينين و الكتفين و المفاصل . صداع خفيف . الضجيج يملأ كيانه ، وحريق هائل يشب في الأعماق . و .. استسلم لغفوة ، قدر وقتها . ثم أفاق منزعجا . نظر إلى الجراب ، الموضوع أمامه ، على الطاولة . وقف . تأمل مقتنياته في رضاً ، و مضى يتفقدها بعزم واهتمام ، للمرة الأخيرة :
شريط لاصق ، عريض . سكاكين مختلفة الأحجام والأشكال . سلاح ناري صغير الحجم . علبة ثقاب ، عليها رسومات . جالون من الوقود . حبوب
وأقراص وأدوية سائلة ، ذات ألوان متعددة ، في قناني محكمة الإغلاق . حبل متين ، ملفوف بعناية وترتيب .


في الطرف الآخر من المدينة ، رن جرس الهاتف . وعندما رفعت السماعة . تناهى إليه النداء التقليدي :
_ آلو ..
_ أهلا .. الست السيد . . . .
_ نعم ..
_ أنا . . . . أود مقابلتك لأمر هام .. و أرجو أن يسمح وقتك بذلك .
_ أمر هام .. هل لي أن أعرف بالتحديد ما هو ؟
_ أرجو المعذرة .. قد يكون من الأفضل أن نتحدث مباشرة . أعني ..
_ حسنا ، ليس لدي مانع .
_ اذا .. أرجو أن تأخذ العنوان . . . و أرجو أن نلتقي بعد ساعة من الآن .
_ العنوان ؟ ولكن . . هل لي أن أعرف من أنت أولا ؟
_ ستعرف . . بالتأكيد ستعرف . ولكن ليس الآن . . ستعرف لاحقا . وسيسرك أن تعرف . ألا تحب المفاجآت السارة يا رجل ؟
_ المفاجآت ؟ حسنا . . ولنتوقع أن تكون مفاجأة سارة .
_ هذا جيد .. إلى اللقاء .
_ إلى اللقاء ، وسأكون بانتظارك .
أقفل الخط . و انقطع الكلام من طرفي المدينة .


لقد فعلها أخيرا . لأول مرة لا يرد على الهاتف . . لأول مرة ، هو الذي يتصل . هو الذي يرد على هاتفه . هذا الهاتف القميء . المرعب . المخيف . الذي أصبح الآن مهانا . طيعا ، وباعثا باستسلامه للراحة والرضا . كم مرة رد عليه ، و أو قف رنينه المزعج . كم مرة استقبل فيها الشتائم والسباب ، بدون معنى . كم مرة صدمه الكلام الفاحش ، البذيء . كم مرة أصيب بالرعب والخوف . كم مرة أحس باقتراب النهاية . من خلال التهديد بالقتل . التهديد بالموت ، وعبر الهاتف . غمره إحساس براحة عميقة . هاهو يقطع الطريق ، ويواجه الموقف . وحيدا ، وواثقا من نفسه ، ومن إمكانياته . نعم . لقد وصل إلى يقين :
_ لا بد من اتخاذ القرار . ولا مفر من تنفيذه .
_ ..
_ شيء ما ، لا بد أن يحدث .
_ ..
جمع الأغراض . تأكد من عدم نسيان أي شيء . حمل الجراب . اتجه صوب الباب . استدار . ألقى نظرة شاملة ، يعلم أنها الأخيرة . أمسك بالمقبض . صفق الباب برعونة . تأمل الجوار . ترك البيت . ابتعد إلى نهاية الشارع . لم يلتفت إلى الوراء . شعر براحة مبهجة . وانزاح حمل ثقيل ، غير ثقل الجراب .


استعرض الأحداث الأخيرة . شعر بثقة . فقد تصرف وفق الخطة التي وضعها بنفسه . نفذها حرفيا . إنها خريطة عمل ، مرسومة في مخيلته . تتبع تضاريسها بعناية فائقة . لا تحتمل الأخطاء . سار حتى وصل إلى مكان اللقاء ، المتفق عليه . لم يكن بعيدا جدا عن البيت . اختاره بعناية . يعرف تضاريسه جيدا . مكان آمن . غير مأهول . تتيسر فيه الحركة والتصرف . وقف متوجسا . تلصص على زوايا المكان . تفقد ما حوله . رتب الأمور – من جديد – في عقله ، محاولا إقناع نفسه ، وجلب الرضا لأعماقه المتوجسة :
_ لقد وصل قبل الموعد المحدد بوقت كاف .
_ ..
_ عليه أن يرتب أموره ، وأن يستعد للمواجهة .
_ ..
_ قد لا تأخذ أكثر من لحظات . وقد تطول .
_ ..
_ عليه أن يختصر الوقت والفعل . ليس أمامه غير ذلك . إذ ، لابد أن ينتهي كل شيء هنا .
وللحظات ، أحس بوجود الآخر . تنبه . استجمع حواسه . تقدم بحذر وحيطة . برز الثاني من وراء الجدار . حاذر أن يفاجئه . أراد الآخر أن يتكلم . لم يعطه الفرصة لذلك . غمرته الجسارة . باغته بالسؤال المعد سلفا :
_ أنت تبحث عني أليس كذلك ؟
_ ماذا ؟
_ أنا أعرف أنك تبحث عني .. هاأنذا قد أتيت إليك بقدمي .
_ من أنت ؟
_ أنا من تبحث عنه .. هاأنذا أمامك .. أفعل بي ما تريد .. أليس لديك ما تريد فعله بي ؟
_ ..
_ سأساعدك .. أجل .. سأساعدك .
نظر إليه بذهول ، وقال في ارتباك واضح :
_ ولكن هل جننت ؟
_ أنا لم أجن .. أنا فقط أردت أن أريح نفسي وأريحك .. أفعلها .. أفعلها الآن ، فلا يوجد أحد معنا .
_ ماذا أفعل ؟!
_ اقتلني .. أليس هذا ما تريده ؟!
_ هكذا .. ببساطة .. تطلب مني أن أقتلك ؟!
_ أنا أريد أن أحقق لك أمنيتك .. أعني أن أساعدك في تحقيقها .
_ . .
_ لقد اخترت لك هذا المكان . . انه آمن . . لن يكتشف أحد شيئا . وحتى إذا حصل ذلك ، فلن يكون قبل مضي وقت طويل . عندها سيكون كل شيء قد انتهى ، وتلاشى كل أثر .
_ . .
_ انك في الجانب الآمن ، أيها السيد ( . . . . )
_ أنت داهية أو مجنون . لا يوجد خيار ثالث .
_ بل يوجد خيار آخر . . أنا أريد أن أساعدك . . و أن تنتهي هذه المهزلة .
_ وهل هناك من ينهيها على هذا النحو ؟
_ نعم ، هاأنذا أفعل ذلك . . لماذا تضيع الوقت أيها السيد ( . . . . ) نعم . أنا من يريد إنهاءها على هذا النحو .
_ أنت ؟!
_ أجل . . و إذا أردت . سأريك كيف . فالأمر بسيط . . لقد رتبت كل شيء . . وما عليك سوى التنفيذ .
_ أي مخلوق أنت ؟
_ أنا مثلك . . مثلك تماما . . لكنني مختلف عنك .
_ . .
_ هه . . هل نبدأ ؟
_ انتظر . . انتظر . . ماذا سنبدأ ؟
_ نبدأ التنفيذ .
_ تنفيذ ماذا ؟
_ لا تراوغ .
_ . .
_ اسمع . . أنت تريد أن تقتلني . تريد التخلص مني . هاأنذا أعلن لك ، أنني أريد أن أموت . أود التخلص مني ، أنا الآخر . وبأسرع وقت ممكن . ولكي لا تموت بحسرتك . ولا يأكلك الندم أو يفجرك الغيظ من الداخل . فإنني أمنحك فرصة قتلي .
قال الآخر بذهول :
_ يا الهي .
قال الأول بإصرار :
_ لابد أن تكمل ما بدأته .
_ . .
_ لابد أن يحدث ذلك . والآن بالتحديد .
تراجع الآخر . بدا الارتباك واضحا عليه . تفقد الجوار بنظرة ارتياب . تحسس جيوبه . ملامح الانهيار بدت تلوح على سحنته .
_ لا تضطرني إلا فعل ما لا أود فعله .
_ بل لابد لك من أن تفعل ذلك .
_ سأطلق عليك .
_ هذا ما أريده .
_ سأفعلها حقا .
_ افعلها .
_ سأطلق .
_ أطلق .
_ سأطلق .
_ أطلق ، وإلا سوف أطلق أنا .
_ أطلق .
_ أطلق .
_ أطـ . .

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :