- . د. محمد عمر غرس الله. باحث ليبي مقيم في بريطانيا.
يلاحظ المتابع لما يجري في المنطقة، أن بين الأمم المتحدة والليبيين حالة غريبة عجيبة، فقصة ليبيا مع الأمم المتحدة تبدو سوداء الصفحة ورغم ذلك الكثير من هؤلاء الليبيين يبدو وكأنهم يعشقونهادون أدنى استيعاب لحقيقة دورها المزدوج بين (الظاهر والخفي)، إن هذا العشق الليبي العذري للأمم المتحدة يبدو صادماً، فعند محاولاتك توضيح أن الأمم المتحدة (مجلس الأمن)–في حقيقتها- تعد تكريسا لسطوة الدول الكبرى، تجد هؤلاء الليبيين يذكرونك – بغضب – بقرار الأمم المتحدة المتعلق باستقلال ليبيا21 نوفمبر 1949م، والذي تحقق في 24 ديسمبر 1952م،وفي ذلك يُصر البعض على أن ليبيا نفسها صنيعة الأمم المتحدة هذه،بل ويحدثونك على أنها اكتشافها الحصري، وهي التي صنعتها من العدم،مالقصة؟دعونا نرى. إن التصورات العامة في ليبيا – حول دور الأمم المتحدة التاريخي في ليبيا- تعد محيرة للغايةوبسذاجة وجهل مطبق بتاريخنا ونضالنا ووجودنا المترابط – وسط أمتنا العربية–فليبيا الحالية – تاريخياً –مركز المقاومة التاريخية لأعتى موجة قادها الإسبان ومن بعدهم فرسان القدّيس يُوحنّا ومن بعدهم الطليان ومن تلاهم من الغزاة، مركز مثّلت فيه طرابلس والطرابلسيين (كما كان يسمى سكان هذه الجغرافيا)واسطة عقد حواضر الأمة العربية من المغرب حتى المشرق، لما لها من ترابط بالامتداد العربي المار بالإسكندرية والقاهرة شرقاً والمتواصل مع تونس والجزائر والمغرب وأعماق الصحراء الكبرى حتى شنقيط وتنبكتو وكيدال وكل السوق وأنجامينا ودار فور والخرطوم، والمُكمل لذلك الامتداد القادم من حضرموت وصنعاء وبغداد ودمشق. في الحقيقة فإن ليبيا التاريخية الحاضرة العربية،(طرابلس الغرب كمركز سلطة) لم تكن صنيعة الأمم المتحدة بل هي صنيعة أبنائها ونضالهم،مما قبل مواجهة فيلادليفيا عام 1805م، أما حدودها الدولية – اليوم –فهي عبارة عن تجلٍّ من مخلفات الاستعمار في المنطقة العربية، فطرابلس الغرب والطرابلسيون امتداد عربي من المشرق إلى المغرب حيث لم يكن ثَمّ تمييز قبل الاستعمار بين العربي وأخيه العربي سكناً ونضالاً وحياة وتنقلا، وقضايانا العربية منذ القدم كانت ولا تزال قضية واحدة تُهمنا وتشغلنا ونعمل من أجلها من “بغداد” حتى “روصو” على تخوم الغابة الأفريقية، ومقاومة الاستعمار في أمتنا العربية مقاومة وحركة تحرير واحدة – بغض النظر عن اسم ونوع الاستعمار وخطوط الحدود التي رسمها والتسميات التي فرضها–قام بها وساهم فيها كل العرب – معاً – بنفس المستوى كلاً بما يستطيع وأينما يستطيع. إن الأمم المتحدة – التي ظهرت كنتيجة للحرب العالمية الثانية – انصاعت لحركة التحرر وتصفية الاستعمار، فقامت الدول المنتصرة بحيلة تقسيم وحدة حركة التحرر العربي إلى حركات استقلالية مُنحت الاعتراف كدول(مُجزأة) بناء على حدود صنعتها الدول التي استعمرت المنطقة (سايكس بيكو في المشرق العربي، وقسمت فرنسا المغرب العربي وصحرائه الكبرى على دويلات)وبقيت دائماً هذه الحدود تعبيرا عن مخلفات هذا الاستعمار ونفوذه حتى وإن الحالة الاستقلالية تاريخياً في عمقها استمدت قوتها ومشروعيتها من نضال شعوبنا في أمتنا، وليس من قرار الأمم المتحدة الذي كان في حقيقته استجابة للنضال ضد الاستعمار، لكنه وقع في (القُطرية) كمتاح وممكن مرحلياً. كان ولايزال ظهور الدولة القطرية – وإن كانت قد قبلته قوى التحرر العربي الموحدة تاريخياً آنذاك –مرحلة أولية للتخلص من الاستعمار، ونحن لازلنا أمام تحدي تأكيد هذا الاستقلال – فعلياً – بتحقيق وحدة الأمة العربية كمعبر طبيعي وواقعي وحقيقي وضروري عن إرادة حركة التحرر العربي،ولابد علينا أن نحقق وحدتنا ونعود إليها كوضع طبيعي يمكننا من البقاء وتحقيق إرادة الفعل والاستمرار المادي والمعنوي حضارياً. إن الأمم المتحدة – التي يعشقها الليبيون ويعشق مبعوثيها ومكاتبها وفرق عملها – يبدو أنها تحب الليبيين بطريقة غرام الأفاعي، فقد تم تحت جناحها حصار لليبيا (1991 – 1999م) لمدة عشر سنوات ظلماً وعدواناً بعد تلفيق قضية لوكربي، وقُتل خلالها الآلاف من الليبيين المرضى وفي حوادث الطرق وهم يسافرون براً بين مصر وتونس، وتم فيها توقف عجلة التنمية وتآكلت المدخرات المحلية للدولة والأُسرة والأفراد نتيجة لمفعول الحصار الاقتصادي، وتم تحت جناحها منع الطلبة الليبيين من دراسة علوم مهمة لبنية المجتمع وتطوره، وتم منع استخدام الطيران في ليبيا وبينها وبين العالم الآخر وبما فيه منع الحصول على قطع الغيار والحصول على التقنية المتطورة، وتم تجميد أرصدة ليبيا المالية بما في ذلك من نهب وسطو مقنع وواضح، وتم تحت الأمم المتحدة – هذه – إجبار ليبيا (الدولة الصغيرة) على دفع أموال طائلة للتخلص من ذلك الحصار الجائر والظالم إكراماً لعيون أميركا وبريطانيا. كما أن الأمم المتحدة –فيما بعد – في غضون عشرين سنة أصدرت القرار 1973 يوم 17 مارس2011م بوضع ليبيا تحت الفصل السابع وفرض حظر جوي على ليبيا دون أي تحقيق محايد أو تأكد مما روّج له الإعلام المعادي لليبيا وفي غضون شهر واحد فقط من تفجر الأحداث، قامت الأمم المتحدة – هذه – عبر مجلس الأمن بتغطية عدوان حلف الناتو علينا بــــــ 30 ألف غارة بأضخم آلة حربية يعرفها تاريخ العالم، وتم تجميد الأرصدة الليبية والتصرف فيها عبر السيطرة المالية للدول الغربية ومركز المال الدولي ذراع الهيمنة والنهب. هذا وبعدما تم إدخال ليبيا لنفق الفوضى الخلاقة، لليبيين قصة عجيبة وغريبة في الغرام السياسي بمبعوثي الأُمم المتحدة في ليبيا ، فالليبيون صاروا مغرومين بالبعثة ومبعوثيها وفرق عملها واجتماعاتهم ولقاءاتهم وتصريحاتهم، بل إن أكاديميين ونخب وشخصيات ليبية معتبرة صارت تعبر عن هيامها وعشقها العذري بالأمم المتحدة ومبعوثيها وما يشير إليها وإليهم، يصدقونها ويصدقونهم ويستشيرونهم ويجلسون أمامهم ويجرون وراءهم ويلهثون نحو اجتماعاتهم عبر العواصم ويسوغون تدخلاتهم حتى في عمل البلديات وتفاصيل القبائل وكأن البعثة الأممي
جزء من الإدارة المحلية للبلاد، فأنت ترى أنف المبعوثين في كل تفصيل، وتلاحظ أن بعض الليبيين يخاطبون مبعوثي الأمم المتحدة بكلمات التبجيل المبالغ فيه غزلاً وحباً وعشقاً سياسياً لا متناهٍ هيام عذري لابد أن الأمم المتحدة نفسها مستغربة في هذا الشعب الذي سلمت نخبه وقواه وكوادره أمرها لمبعوثيها مراسليها وفرقها ومشاريعها يفصلون ويشيرون ويتدخلون في كل كبيرة وصغيرة. إن قصة الليبيين مع الأمم المتحدة اليوم محيرة للغاية ومُلفتة، فلم يقاطع الليبيون بعثتها، ولم يتجنبوها ويعزلوها عنهم، ولم يعبروا عن رفضهم لتدخلها السافر بالاحتجاج المناسب،ولم ينطلقوا يتلمسون طريقهم الوطني نضالاً يعرف أهل البلد كيف يقومون به وفق مصلحتهم ورؤيتهم وإرادتهم كما هو ديدن الشعوب،فالشعب العربي الليبي يعرف تاريخه شواهد مهمة في ذلك، لكن البعض من الليبيين سلموا أنفسهم لهذه الأمم المتحدة ومبعوثيها الذين تستبدلهم كل مرة، فكل المبعوثين سبق لهم العمل في دول رأى ويرى الليبيون ماذا حققت فيها الأمم المتحدة – هذه – وماذا فعل مبعوثوها في العراق وأفغانستان والصومال واليمن وإلى ماذا آلت أوضاعها. إنها مفارقة غريبة عجيبة، فالشعوب بنخبها وكوادرها هي من تصنع طريقها، وهي من تحدد سلم أولوياتها، وهي من تنحت طريقها الوطني، ولا تسير خلف ما يرسمه موظف أممي تحركه سيطرة وسطوة الدول المسيطرة على القرار في مجلس الأمن ومصالحها ورؤيتها. إن الأمم المتحدة بما تفعل في ليبيا منذ ثلاثين عاماً هي الغطاء الذي يستخدمه (الغرب الناهب) العدو الأول لليبيا والليبيين، تحت جناحها تم كل ما حل وحاك بليبيا من نهب أموالها غصباً وظلماً وموت نساء وأطفال وشيوخ بسبب الحصار الظالم في تسعينيات القرن الماضي تحت ذريعة قضية لوكربي، وما تم نهبه وخسارته مالياً وما حصل من تأخر في مشروع التنمية الواعد، وهذه الأمم المتحدة منذ عام 2011م نفسها كانت غطاء لضرب السلم الأهلي في ليبيا وهي التي عبرها تم تعويم مشاريع الدول الغربية التي جلعت من ليبيا موطىء قدم للإرهاب والإرهابيين أمام الأشهاد وبالمجاهرة، فكلما ضيق الليبيون على الإرهاب والإرهابيين تنبري الأمم المتحدة ومبعوثيها بطلب ممرات آمنة لهم تحت اسم (أطفال درنة – أطفال قنفودة ..إلخ)، وقف إطلاق النار، وهي تتفرج بل وترعى وتغطي على إدارة الإرهاب (اللعبة الدولية القذرة) التي تمكن من السيطرة على مركز الدولة والمال والاتصالات في ليبيا، وتصر على جعل الإرهابيين طرفا ليبيا لابد من وجوده في المشهد السياسي. وهذه الأمم المتحدة غالباً ما تساوي بين محاولات الليبيين إنقاذ بلادهم من المليشيات والإرهابيين، وما يفعله هؤلاء الإرهابيون ومليشياتهم بالليبيين بل وتتفرج على دول مثل قطر وتركيا تدعم الإرهاب والإرهابيين بالأسلحة والذخائر عبر الجو والبحر بالطائرات والسفن وتسهيل تنقل الجماعات المسلحة، وما تفعله أحزاب نافذة مثل حزب النهضة (الغنوشية) في تونس وما يفعله وينهبه المركز العالمي للإخوان المسلمين من سيطرة ونهب للكنز المالي الليبي ورصيد الذهب الأعلى في المنطقة. إن الأمم المتحدة – اليوم – أيها الليبيون ليست هي الأمم المتحدة عام 1950م، لقد كانت – وقتها – تعبيرا عن توازن قوى في العالم شكلت في ذلك قوى التحرر عالمياً قوى صاعدة لها تأثيرها وفعلها ونفوذها على العالم والقرار في المنطقة وداخل قرارات الأمم المتحدة بفعل إرادتها في تصفية الاستعمار وتحقيق الاستقلال. أما اليوم فإن الأمم المتحدة تعبير عن سطوة الدول الغربية (أميركا – بريطانيا – أوروبا وأحلافها) وهؤلاء لا يحبون سواد عيونكم ولا يمارسون معكم الحب العذري، ولا تشغلهم مأساتكم، بل هم في حالة نشر الفوضى وتمكين الجماعات المسلحة وتغطيتها، وهم في حالة نهب وتسخير أداوات ومنظمات دولية لتحقيق ذلك وبسط السيطرة على الموارد بطرق جديدة وحديثة وصلت إلى حالة الأتاوات المباشرة على الدول والشعوب، أو حروب وسطو واستعمار جديد كما فعلوا بالعراق وأفعانستان، وهاهم يفعلونه بليبيا. إن الطريق الوطني المطلوب والمثمر – هو ما تصنعه وتخطط له وتقوم به وفق إرادتك وبإدارة أهدافك وقيادتك وفق جدول وسلم الأولويات الوطنية فما حك جلدك مثل ظفرك – وليس تصديقا وتسليما أعمى واستجابة ولهث وراء مشاريع وتصريحات مبعوثي هذه الأمم المتحدة وفرق عملها وما تجتره من اجتماعات ولقاءات ماراثونية هدفها معروفة الأسباب والمُخرجات. فالذكي الفطن المدرك – في هذا العالم – هو من يحسن ويدرك ويعي ويعرف الخط الفاصل بين إرادته ومصلحته وأهدافه الوطنية، وتدخل الآخرين في بلاده والاستئساد عليها واللعب بها والتدخل في شؤونها وتتويهها وتتويه أبنائها، ورغم ذلك لابأس من القليل من ممارسة المجاملات مع هؤلاء وممارسة لعبة العلاقات العامة بوعي ومهارة، وفي نفس الوقت تحديد سُلم الأولويات والإصرار على العمل الوطني الخالص والتام والمحكم الإرادة والخطوات والفعل والتمكن من إدارة اللعبة الوطنية بجدارة كما فعل الأجداد المجاهدون، وكما فعل الآباء المؤسسون، وكما فعل الأبناء البررة الذين حرروا ليبيا من القواعد وأمموا نفطها وأعادوا لها سيادتها الوطنية ومنعوا نهبها وحرّموها على قوى النهب الدولي وأذرعها. والله من وراء القصد.