بقلم :: رضوان ضاوي :: باحث في الدراسات المقارنة/الرباط، المغرب
قال نجيب محفوظ: “من يستهين بقدرات النساء أتمنى أن تعاد طفولته من غير أم”. مناسبة هذا الاستشهاد هو حديثنا عن الحكاية الليبية الشعبية “بو سبع فرحات وبو سبع قهرات”. وملخص الحكاية أن أخان لأحدهما سبع بنات وللآخر سبعة أولاد. طلبت البنت الكبرى من أبيها ومن عمها السفر مع ابن عمها الكبير فوافقا على سفرهما. تخفّت البنت في لباس فارس، وفي الصحراء وقعت في أيدي الغولة وابنها “حمد”. استطاعت البنت أن تنجو من امتحانات الغولة التي تريد كشف ما إذا كانت الأسيرة رجلا أم امرأة. تقول الغولة: “الركبة ركبة فارس، والعين عين عانس”. وساعد الفتاة في ذلك ابن الغولة “حمد”. فعادت الفتاة إلى أهلها محمّلة بالمال والجواهر والملابس الجميلة والهدايا. أما ابن عمها فلم يجلب إلى أهله سوى الأفاعي. بعد رحيل الفتاة علمت الغولة أن الأسيرة هي فعلا بنت: “الركبة ركبة عانس والعين عين فارس”. فقررت الانتقام منها واختطفت البنت بالحيلة من بين أهلها. وللمرة الثانية ساعد ابن الغولة الفتاة ليقضيا على مصدر الشر وهو”الغولة” وعلى الرجوع إلى أهلها لتتزوج بالسلطان.
تنتمي هذه الحكاية إلى صنف الحكاية الخرافية العجيبة، وتحكي أحداثًا تمثل المرأة مركز اهتمامها. يعطينا عنوان الحكاية مدخلًا واضحًا لصورة المرأة العربية، فهي “قهرة” في مقابل الرجل الذي يصفه العنوان ب”فرحة”. هكذا يكون الأخ الذي يملك سبع بنات هو”بو سبع قهرات” بينما الأخ الثاني الذي له أبناء يكون عنده”سبع فرحات”. فالمرأة قهرة ضعيفة لا تقدر على القيام بعمل بطولي، وأبو سبع قهرات لا يتمتع بمركز اجتماعي مرموق، إذ مكانته هي أقل من مكانة والد الأولاد. لهذا قررت البطلة قلب موازين هذه المعادلة الظالمة وهذا الفكر الشعبي المغلوط وتصحيح هذا التصور الخاطئ عن المرأة، فطلبت من أبيها ومن عمها القيام بمغامرة “السفر إلى أعاق المجهول” رفقة ابن عمها الكبير. لم يعترض الرجلان في إشارة إلى تغيّر عقلية الرجل. وتخفت البنت في لباس فارس لأن معرفة الناس بحقيقة كونها “امرأة” سيحول دون تحقيق هدفها. ولجوءها إلى الحيلة يعطيها فرصة تجاوز أول عقبة وهي النظرة القاصرة للمرأة.
في السيرة الشعبية “الزير سالم أبو ليلى المهلهل” طلب الزير من زوجته أن تئد المولودة الجديدة، فعملت المرأة على إخفاءها. تنبّه الزير لهذا الأمر فاعترفت الزوجة فقال لها: يا لمكر النساء. أجابته المرأة: ما لنا غير هذا المكر وأنتم الرجال تلاحقوننا بالوأد”.
إذًا استخدمت الفتاة في بعض الحالات عقلها لكي تتجنب عقاب الغولة وغضبها، ومرة أخرى استعانت بقوى ثانية متمثلة في ابن الغولة “حمد”، الذي ساعدها على القضاء على الغولة مصدر الشر. ولهذا جاء اسم “حمد” لابن الغولة ليمهد طريق القارئ ويجعله يستوعب وظيفة ابن الغولة في هذه الحكاية.
يمتاز حدث هذه الحكاية بالبساطة والتطور المتعاقب، وتميزت الحكاية العجيبة من خلال الحدث والشخصيات والأمكنة والأزمنة بالدقة والتماسك بعيدًا عن الهلهلة. وتصور هذه الحكاية الصراع بين الذكر والأنثى في مجتمع ذكوري يرفض إعطاء الفرصة للمرأة لتبرز قدراتها. وتبرز الحكاية أن الأنثى لا يبغضها الرجل فقط بل أيضًا الأنثى. فحين أقنع ابن الغولة أمه بأن الأسيرة فارس ذكر تركتها تأخذ الأموال وترحل، وحين علمت أنها أنثى بعد سفرها دبرت حيلة للنيل منها والانتقام منها-وهذا يعطينا فكرة أن الأنثى مبغضة من الأنثى.
تهدف الحكاية إلى إبراز الجوانب الايجابية في المرأة التي تم كبحها من قبل الرجل ومن المرأة أيضا. لهذا أثبتت المرأة الليبية أنها لا تقل شجاعة وذكاءً من الرجل، بل تتفوق عليه. وترفض الحكاية الصور النمطية التي تشيدها الثقافة الشعبية-والثقافة العالمة أيضًا- عن المرأة الليبية والعربية.
ولعل طاقم هذه الصحيفة الذي يضم خيرة بنات ليبيا يعطينا صورة واضحة إلى ما وصلت إليه المرأة بعملها وجدّها وفكرها المستنير الذي يعود بالنفع العميم على الوطن.
*استعنت في هذه الورقة بكتاب الباحث الليبي محمد سعيد محمد “دراسات في التراث الشعبي”، وزارة الثقافة والمجتمع المدني، بنغازي، الطبعة الأولى، 2013، (الفصل الأول). ونص الحكاية موجود في الكتاب، ويمكن الرجوع إليه ومراجعته.