كتب :: انتصار بوراوي
كنت منذ أيام مُنكبّة على قراءة بعض الروايات التي صدرت قبل عام 2011 لبعض الروائيين الليبيين فلاحظت أن ثمة استشراف في روايتهم لما حدث فعلا في عام 2011 ..فالكتابة الإبداعية الشعرية والروائية والمسرحية ليست فقط بحثا عن الحقيقة بل هي أيضاً تحليق في مفازات الخيال واستشراف للمستقبل. في رواية “الأيام الأخيرة لعلاج” للروائي الليبي محمد العريشية يروي الكاتب فيها تفاصيل المصير الدموي لقرية “علاج” في مدينة سرت وهي القرية التي يقطنها الكاتب في ضواحي سرت ،تذهلك تفاصيل الرواية وما يحدث للقرية من دمار وحرب فهنا عين الروائي رأت بعين العارف مالا يراه البشر العاديّون و رسم خياله مالم يكن في الحسبان أبدا. وفي رواية القاصة و الروائية “نجوى بن شتوان ” “وبر الأحصنة” ثمة رؤية مستقبلية للبلاد وكيف ستنقلب إلى فوضى بفعل استبداد حاكمها ،كل ذلك في لغة مشفرة ومحملة بكثير من الرموز والمجاز والخيال الذي تبدع الروائية في نسجه برواياتها. أما في رواية “سرة الكون” فثمة مقاطع في الرواية تستشرف وقوع حرب أهلية في البلاد وقصف للطيران الأمريكي والغربي وحالة من الهلع والهروب لأهل البلاد ولحالة التناحر بين قبائلها ومدنها وانتشار الأسلحة بين أيدي الناس أعتقد أن الرؤية الاستشرافية لدى بعض الروائيين الليبيين كانت واضحة في كثير من الروايات ولكن أغلب من كانت لهم هذه الرؤية الثاقبة للزمن والاستقراء لحال البلاد قبل الانفجار والزلزال العظيم الذي حدث في عام 2011 لم ينشروا رواياتهم داخل البلاد نتيجة قمع الرقابة والسلطة ،فمثلا هذه الروايات الاستشرافية الثلاثة التي قرأتها نشرت في دور نشر عربية ولم يقرأها كثير من القراء الليبيين. أيضاً هناك قلة من الشعراء المميزين في خارطة الشعر الليبي كتبوا بعين الرائي عن مستقبل البلاد في ظل القمع والفساد الذي أكل كل شيء في البلاد قبل 2011 مما أدى في النهاية لانهيارها بهذا الشكل المأساوي الذي تعيشه الآن ولكن مشكلة الليبيين أنهم شعب غير قارئ وغير متابع للنتاج المختلف والذي يقرع نواقيس الخطر وهذا ما يحدث حاليا من حالة عدم استشراف أفق ما يحدث من تفكك للبلاد وغلبة أصوات القمع وفرض الرأي الواحد وانتشار ثقافة الإفلات من العقاب وكأن دوائر الزمن في الوطن تعود للوراء دائماً ولا تريد أبدا أن تتعظ من المآسي والنهايات التراجيدية من نشر ثقافة القمع وكبت الحريات في البلاد ، وتغوّل الأيدلوجية الدينية المتطرفة وتشكلها في ميليشيات باسم الله والدين. فأحرقت البلاد وعاثت بالفساد والخراب فيها . وهنا يقف دور الأدب في أعلى تجلياته وهو البحث عن الحقيقة والتنوير وعدم موالاة أي سلطة سياسية أو دينية ،فالأديب والكاتب ليس كلب حراسة للسلطة مهما كان اسمها أو نوعها ،بل هو دائماً في الجانب النقيض لها، دوره تنويري ويحمل رؤية استشرافية للمستقبل تقرع أجراس الخطر وتنبه النيام من غفلتهم ،أما التصفيق والتطبيل والهيحان غير العقلاني الذي يعمل على تضليل الناس فهو ليس دور الأديب والكاتب الحقيقي ،وإنما هو دور الكتبة مدفوعي الأجر من أجل حضور المهرجانات المزيفة والمتزلفة لكل سلطة جديدة تستلم مقاليد الحكم واللهاث خلفها في الفنادق الفخمة لأجل بضعة سفريات في هذه العاصمة أو تلك ومعها حفنة من الدولارات ،ليبقى الأدباء الحقيقيون حاملين مشاعل التنوير والحرية ، هم وحدهم القابضون على جمر الوعي يسيرون في درب نشر الحقيقة واستشراف الواقع بكل دراميته وفانتازيته ووجعه مهما كانت الخسائر في طريقهم الطويل .