بقلم :: إبراهيم عثمونه
لم يتصور أن قذائف عشوائية قد تخرق جدران المنازل والشقق ، ولا ظن يوماً أن القناصة قد يعتلون أسطح البنايات في سبها ، لكنه كان يعلم أن القبائل هي رديف القنابل في اللغة العربية . لذلك في انتخابات سابقة نشر لافتاته في شوارع وتقاطعات المدينة ولم يكتب عليها سوى عبارة واحدة وهي “من أجل مدينة بلا قبيلة”.
ليس أقل من ثلاثين قطعة قماش في ثلاثين تقاطع بسبها مكتوب عليها (من أجل مدينة بلا قبيلة) كان كل صباح يأتي من قريته المجاورة التابعة لدائرة سبها الانتخابية ليرفع من خمسة إلى عشرة لافتات يومياً ويطالع ويحلم بمدينة بلا قبيلة . كان في قرارة نفسه من الداخل يعلم أنه يبالغ في حلمه وفي حملته ، ويعلم أيضاً أنه لن يغلب القبائل التي يفوق عددها عدد المدارس والمخابز والجوامع ومحطات الوقود في المدينة ، لكن ذلك لم يمنعه من الحلم.
وزع مطوياته الانتخابية التي تظهر أمامكم في الصورة على المكاتب وعلى السيارات وعلى المارة ، وكتب في وسط كل مطوية عبارة بالخط العريض وهي “مَن يرغب في صوت القبيلة لا أرغب في صوت” أذكر يومها حين استلمنا منه المطوية عند مبنى عمارة التأمين وطالعتُ هذه العبارة ناديتُ عليه وأخبرته أنه لا أحد سوف يعطيك صوته . ابتسم “مسعود” في وجهي وذهب.
ألصق بعدها على الجدران ملصقات فيها كلام لا أذكر منه اليوم سوى عبارة واحدة مكتوبة بالخط العريض وهي “مَن يحب القبائل فمسعود لا يحبه” تلفتتُ لحظتها بعد أن طالعتُ أول مُلصق لعلي أجده أو أجد الشباب الذين يساعدونه في لصق هذا المنشور ولم أجد أحداً . كنتُ أنوي أن اقول لهم لا داعي لكل هذه الخسائر وهذه الملصقات ، فمسعود خاسر لا محالة.
وانتظرتُ يوم الانتخابات بشغف لأعطيته أنا وأصدقائي اصواتنا.
وفي اليوم الثالث حين رشحت أول الأخبار كان مسعود في سبها . لمحته هناك يجوب الشوارع . لم يسأل أحداً ولم يتصل بأحد ليعرف النتيجة لكنه شاهد لافتاته تقع لوحدها من أعلى . كان يجوب شوارع سبها وكان كلما وصل تقاطعاً شاهد من مسافة لافتته تقع لوحدها على الأرض . كنتُ خلفه ولم يرني ، وكان المارة يتنحون عن اللافتة وهي تقع من فوق ثم ما تلبث أن تدوسها أقداهم ، ثم صارت مطوياته تُلقى أمام مقدمة سيارته من النوافذ ، وكنا نشاهد مسعوداً وهو يقف ويجمع مطوياته ، وكان بعض ملصقاته قد نُزع نصفها ونصفها الآخر شطبوه وكتبوا عليه لا أحد يرغب في صوتك يا مسعود ، وعرف الرجل يومها مَن هو الغالب ومَن هو المغلوب ، فأدار سيارته وعاد إلى قريبته المجاورة يجر أذيال الخيبة.
لحقتُ به وأوقفته قبل أن يخرج ويبتعد عن سبها . وقفنا لأكثر من نصف ساعة نتحدث ، وقلتُ له ونحن نفترق ألم أخبرك بأنك ستخسر ! لم يجني بشيء ، فقط ابتسم في وجهي وذهب.
وفي الطريق إلى القرية تلقى ثلاثة مكالمات كان اصحابها قد وجدوا رقم تلفونه مدون على ظهر المطوية . كانت المكالمة الأولى من رجل بحي المهدية في المدينة والثانية من امرأة بحي المنشية والثالثة من طفل بمنطقة “غدوة” التابعة لذات الدائرة الانتخابية . لم يخبرهم أنه خسر الانتخابات ، ولم يُخبرهم أن لافتاته وقعت ومطوياته ألقيت وملصقاته نُزعت ، لكنه وعدهم بالمدينة الافلاطونية التي يحلمون بها في سبها . أخبرهم أنه قد لا يكون هو ولا هم حينها على قيد الحياة لكنهم سوف يعلمون ذلك من أحفادهم ساعة يزورنهم في المقابر . أكد لهم “أننا سوف نسترق السمع لهم و لحديثهم الجانبي من تحت القبر ، وسوف نعرف أن سبها التي تركناها يوماً مليئة بالقبائل والقنابل والقمامة ما عادت مليئة” أخبرهم عن سبها الحالمة فوصلته من المرأة زغرودة نقية وسمع ضحكة واعدة من الطفل وتكبيرة عظيمة من الرجل ، ففتح زجاج سيارته وضحك بصوت عالٍ وحاول أن يزغرد وكبر بصوت أعلى من النافذة.