الدكتور سالم همالي
طوال المدة التي عرفه فيها، وهي اكثر من عام، لم يسمعها منه على الاطلاق، لذلك أيقن ماهاترا إن الأمر مهم وربما مهم جدا وبالغ الأهمية، فالدكتور جيمس دقيق في كل شيء، يحسبه ويخطط له وكأنه بصدد إجراء تجربة معملية او ارسال احد صورايخ ناسا، يتأكد من كل خطواتها قبل البدء.
ولانه امر غير معتاد، ما انفك ماهاترا يخمن فيما سيخبره به دكتور جيمس، استشاري الباطنة الشهير بالمستشفى، فالجميع يعرفوا انه اول من يأتي صباحا وآخر من يغادر في المساء، حتى انهم رغم إعجابهم به، يتهكمون عليه، فقالوا انه مقطوع من شجرة، هبط مِن السماء، اذ لا شيء من تصرفاته يوحي ان له أسرة … فيا ترى ما هو الامر الذي سيخبر به ماهاترا؟!
تقاطعوا تلك العشية مرات في العيادة، كل مرة ماهاترا يتنظر ان يكشف عن الطلسم، ودكتور جيمس يبدو وكأنه سيقول شيء، إلا انه سرعان ما يتضح ان ما يقوله له علاقة بالعمل، ولا جديد فيه … حتى بلغ الذروة: ماهاترا .. ماهاترا، هل يمكن ان تتأتي الآن. دخل ماهاترا وهو على يقين تام ان اللحظة الحاسمة قد حانت، ليستريح من عناء الانتظار والتوقعات التي ارهقته بكل الاحتمالات.
– كنت اعتزم ان اخبرك اليوم، لكن الآن أدركت ان عليّ الانتظار ليوم الغد، حتى انهي اجراء بعض الأمور … سأخبرك غدا صباحًا!
لم ينم ماهاترا تلك الليلة كعادته، بل تقطع النوم مرات، ودكتور جيمس يأتي في خياله كل مرة يوشك ان يفشي بسره، لكن سرعان ما يغير رأيه. إبان اليقضة يجول ماهاترا في توقعات لا حدود لها.
في صباح اليوم التالي، التقى دكتور جيمس في مكتبه، وقبل ان يجلس بادره بالخبر: ماهاترا …
– توفي والدي صباح الامس
– آسف لسماع مثل هذا الخبر، هل كان مريضا؟
– نعم نعم، كان مريض طوال العشر سنوات الماضية، وعلى كل حال كان سيموت لا محالة، وها قد مات فعلًا …
– سأقوم بكل شيء دكتور جيمس، العيادات والمرور على المرضى ومتابعة نتائج التحاليل، كل ما استطيعه، انت بالتأكيد تحتاج ان تكون مع أسرتك في هذا الوقت الصعب.
– لا لا تقلق، وضعت حساب كل شيء، لا احتاج إي وقت سوى يوم الجنازة، الإثنين القادم … لذلك اسمع جيدًا:
اريد منك ان تأتي مبكرا ذلك اليوم، انا اعتدت ان اكون في المستشفى عند السابعة صباحا، اذهب لقسم الطوارئ وتأكد انهم لم يدخلوا احدا مِن مرضاي، وان حدث سجل اسمه ومكانه في المستشفى، افتح الكومبيوتر وتابع التحاليل التي اجريت له، خصوصا الكالسيوم – عادة ما ينسونه – ثم عد للمكتب وانظر الى اللوحة على الحائط، فيها برنامج ذلك اليوم … وضعت مقابل كل عمل ورقة لاصقة صغيرة عليها التفاصيل لذلك، عليك تنفيذها.
يوم الاثنين كما تعرف هو بداية الأسبوع، ولذلك اقضي وقت في تتبع ما حدث خلال عطلة نهاية الأسبوع، ستجد اسماء المرضى الذين يحتاجون لمراجعة تحاليلهم، ويمكن ان تتصل بهم، اذا لزم الامر. هناك اجتماع عند العاشرة صباحا مع ممرضات الشؤون الاجتماعية لا يمكن إلغائه، لذلك يمكن ان تنوب عني فِي ذلك، وستجد مذكرة فيها كل شيء على المكتب عليها اشارة حمراء، خذها معك.
– عفوًا … دكتور جيمس، ادرك انك حزين، وتحتاج للوقت، كن على ثقة اني سأقوم بكل شيء
– لا لا انا لست حزين، موت والدي امر متوقع على اي حال، تشاورت مع اخي، اذا كان بإمكانه ان يقوم بشؤون الجنازة، لكنه مشغول أيضا، لذلك ما من بد إلا ان اقوم انا بذلك، رتبت كل شيء، دفعت ثمن تذكرة القطار وأوصيت على باقة ورد سأحملها معي، بيضاء اللون، سأضعها على النعش. لكن اسمع:
اعاد كل ما ذكره بشأن يوم الإثنين الموعود، وكأنه شريط كاسيت، لم يغفل ولم يضيف شيء … ولأربعة ايام متتالية يكرر نفس الشيء:
– ماهاترا… اسمع جيدًا ….. …. ….. …… ……
حفظ ماهاترا ادق التفاصيل ليوم الإثنين، ولأول مرةً سينوب عن دكتور جيمس، الذي ترك له وصية … لا تنسى ان تقوم بما اتفقنا عليه، سأغيب اليوم لجنازة والدي …
وجدها معلقة على باب المكتب، اذ احتياطا قرر ان يمر على المكتب، قبل الذهاب لقسم الطوارئ كما رسم له … فتح الباب، وكانت المفاجأة!!
دكتور جيمس جالسا على كرسيه وراء مكتبه يراجع التحاليل … من الصدمة تلعثم: صباااح الخير سير، هل نحن في يوم الاثنين؟
نعم نعم ماهاترا … لا عليك، انتهى كل شيء، اخي غيَّر رأيه، سيذهب للجنازة، لا داعي ان اكون هناك … عيون ماهاترا تبحلق، عاجز عن استيعاب ما يرى ويسمع، بدون شعور منه قال:
– خسارة ان تضيع باقة الورد الابيض، لعل مكانها الأفضل ان تكون على هذا المكتب!