بين الحزن والغضب ليس سوى الحب ” مو حزن ..لكن حزييييين “

بين الحزن والغضب ليس سوى الحب ” مو حزن ..لكن حزييييين “

أحمد ناصر قرين

هكذا يبدأ مظفر النواب قصيدته . ماهو هذا الذي ليس حزناً,لكنه يورث الحزن ؟ ليس سوى الغضب . نعم, يسير الحزن نحو البكاء والبكاء يفجر الغضب . ألم يكتب أدونيس في أحد نصوصه :- أقول البكاء وأعني الغضب .إنه النتيجة النهائية لتراكم الحزن .

مو حزن لكن حزين

مثل ما تنشلع تحت المطر شدة ياسمين

مثل  صندوك العرس ينباع خردة عشق من تمضى السنين

مثل بلبل قعد متأخر لقى البستان كله بلايا تين بلايا تين .

 أنا قتلك مو حزن لكن حزييييين ……

عبر ثلاث صور ينفذ بها الى صميم حزنه, يرسم لنا ملامحه ببساطة فاجعة تعبر عن رؤياه بصدق وبعمق .

الياسمينة التي يقتلعها المطر من جذورها . المطر واهب الحياة ينهي حياة الياسمينة . هذا حزن مركب جاهز للتفجر . هو الحزن الذي رصده السياب في أنشودة المطر :- اتعلمين أي حزنٍ يبعث المطر ؟

جهاز العرس الذي يباع خردةً بعدما يشيخ مالكوه أو يموتون, بمضي الزمن .الزمن عدو الأبدية ومنبع الفناء وفاضخ محاولات الخلود . سطحية الزمن تقهر عمق أبدية العشق .

وفي الصورة الثالثة, ذاك البلبل الذي يصحو متأخراً فلا يجد تيناً في البستان .

ثلاث صور تكفي لتراكم الحزن وتوليد الغضب من كل شيء.

وفي نصه الآخر:- يا حزن يا ريت أعرفك

 كنت أسويلك حديقة وممشى من كاش الفرح قدام بيتك

يا حزن لو كنت أعرف وين تسكن

كنت أقولك لا تجيني

وتمشي كل هاي المسافة

أنا نفسي كان أجيتك

يا حزن وحياة حزنك ما عرفتك

كنك امغير مشيتك

حاط ريحة ارخيصة كلش

يا رخيص أشكد بجيتك ..

هنا يستحيل الحزن شخصاً مألوفاً, رفيقاً للشاعر . يستنطقه ويحادثه, يعاتبه ويشكو منه إليه .

لو عرفه لكان صنع له حديقةً وممشىً أمام بيته ليستمتع بجمال الأشياء الزائلة .

لو عرف سكنه لكان كفاه التعب وقطع كل هذه المسافة, لكان جاءه طائعاً . فلا يليق بالحزن أن يُتعِب َ نفسه ليأتينا . لقد ألفناه والاولى أن نجياه نحن .

يا حزن وحياة حزنك ما عرفتك

جنك امغير مشيتك

حاط ريحة ارخيصة كلش

يا رخيص اشكد بجيتك

الحزن حزين حتى أن الشاعر(اليفه الحميم) لم يتعرف إليه .

لدينا في ليبيا تعبير شعبي (أمشي مشيتك) أي كن على طبيعتك, ولا تحاول أن تتكلف ما ليس لك وغيرها من الدلالات المتقاربة .

وها قد غيّر الحزن مشيته حتى لم يعد يستبين للشاعر, ولم يستدل عليه بهذا العطر الرخيص الذي لم يكن يألفه به . وهنا نحار في صفة الرخيص:- هل هي للعطر فقط أم للحزن أيضاً أم لكليهما ؟

هذه مفارقة يترعرع الشعر بين ضفتيها . يا رخيص تفيد الازدراء والإشفاق .

الازدراء بأن يبقى الحزن حزناً الى الأبد, ولا يصير غضباً. ليكون حزناً رخيصاً .

والإشفاق كونه ينتمي الى المسحوقين والمقهورين الذين لا يملكون ثمن العطرالقادر على إخفاء العفن, ويصير قناعاً يستطيع أن يخفي البلى والهشاشة والفناء . أم يقل يوماً :- انه مع الجماهير شرط أن تثور ؟! وأول شروط

 الثورة أن تفسح المجال لغضبك كله كي يتدفق سيلاً .

في لقاء قبل سنوات معه تمثل ببيتين مُعرّبين عن شاعر ألمانيا الأكبر غوته :-

في ذرى الأطواد صمتٌ شامل ٌ         وسكونٌ غشي الكونَ الفسيح ْ

كل شيءِ مستريحٌ هاديءٌ                وقريباً أنت أيضاً تستريحْ

تذكرت حينها قصيدته يجي يوم :-

يجي يوم انلم حزن الأيام و ثياب الصبر ونرد لأهلنا

يجي يوم الدرب يمشي بكيفه ياخذنا لوطنا

يجي يوم انفرق الغربة على العالم أملبس والحزن طاسات حنه

اليوم تذكرت ما تذكرته حينها وأنا أشاهد عودة جثمانه الى أهله وأرضه التي فارقها منذ حوالى نصف قرن .في أحد نصوصه قال ما يؤلمني أني قاومت المستعمرين فكافأني وطني بالغربة والتشرد .

يكاد مظفر النواب أن يختصر في شخصه تاريخ العراق الحديث كله . بل وربما أن يختصر العراق كله .

الشخصية العراقية تقيم بين الحزن والغضب . في هذه المسافة الشاسعة والمحدودة معاً, تمرح الشعرية في أبهى تجلياتها . وهل ثمة شعر دون أن يكون العراق مقيم في صلبه ؟

اللكنة العراقية ودودة وحميمية ومنسابة وفي نفس الوقت صارمة وشرسة وحارة . في هذه المسافة أيضاً تستطيع الروح المرهفة التعبير بكافة الأشكال المتاحة وبأقصى محمولات الألفاظ الدلالية والإيقاعية .

بموت الشاعر ترسب الكثير من الحسرات والأماني في قيعان الحناجر تنتظر من ينطق بها . ويصدق قول خليل حاوي :-

من يظن الموتَ محواَ,

 خلِّه ِ يحصي على البيدر غلاتِ الحصاد .

فلا بد أن يأتي صيادو الرؤى ليعطوا للحسرات والأمنيات أجساداً من الكلمات بأشكال ربما لم تخطر على بال من سبقوا .

لروحه السلام, وإن كنت أراهن أن روحاً قلقةً مشاغبةً مثله لا بد أن تعكر صفو الأبدية .

لروحه المغفرة ولقطارات العراق أن تنفث غضبها إحتكاكاً عنيفاً على طول مساراتها . عسى أن يزهر الحب في (ام شامات) . وليكن حباً غاضباً شرساً لا يساوم ولا يستسلم .

*أم شامات قرية بين بغداد والبصرة حدثت بها قصة حب فاجعة خلدها الشاعر في قصيدة

 مرينا بيكم حمد و احنا بقطار الليل

وسمعنا دق قهوة وشمينا ريحة هيل

التي غناها العراقيون كثبراً.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :