في السفح أسفل جبل ( كوكمن ) الذي انتصب بجرمه المهيب مادًّّ قامته إلى السماء ، وجارًّ سلسلة أخرى تتدرج إلى الحضيض كأم تجر أبنائها ، جلست عجوز متأملة قامته المهيبة ، وهو يولي وجهته للشرق في أول إطلالة للفجر ، و يضع ايظاً فوق رأسه تلك القلعة الحصينة التي بناها الأسلاف بأحجار الصلد والتي صمدت أمام ضربات الزمن الذي كثيراًً ما صفعها بالريح ونقرها بالمطر في أزمان أخرى ، فبدا للعجوز ( ألجمت ) وكأنه ملك يضع تاجاً على رأسه ، ابتسمت للحظة وكان لابتسامتها وميض تزامن مع ظهور أول خيط من خيوط الفجر .
شق مدينة غات طريق معبد ، على يمينه قبع الجبل ، وأسفله تنافس الأسلاف في بناء منازلهم بالطين الذي بلغ الدور الثاني لدى بعض المنازل التي آمنتهم من خوف ومن صفعات الزمن ، وعلى يسار السبيل نامت الرمال الذهبية التي نافست هي الأخرى الجبال في ارتفاعها ، ومن بعدها وضع الأسلاف جهدهم في إنشاء مزارع التي تطعمهم من جوع وتقيهم ذل الحاجة .
بنفس الوثيرة اليومية أشعلت ألجمت (البابور) بعد أن غدته بالكيروسين ، ضغطت مراراً على مقبضه لضخ السائل إلى أعلى ، أصدر البابور صوته المعهود بمجرد إشعال أول عود ثقاب ، عندها ضبطت ميزان النار بيداً لا تنقصها الخبرة ووضعت براد الشاي الأخضر على النار ، وفي تلك الفترة أمتزج صوت البابور الخفيف مع حفيف الأشجار والنخيل التي امتدت وسط المزارع بشكل متشابك وعشوائي كالغابات وصوت العصافير ومن بين أصوات الطيور تميز صوت الحمام البري الذي يكرر نداءاته بصوت هادئ مليء بالطرب خلافاً عن الزقزقة الجميلة والرفيعة للعصافير الرقيقة .
تلك المعزوفات كانت تبعث بالأمل والتفاؤل والحيوية لدى العجوز التي فقدت قرينها منذ زمن بعيد ، هذه المعزوفات كانت جسر روحي استطاعت أن تعبر به الأيام المضنية في سيرها البطيء كلما فقدت عزيز ، وكانت تتسلى في بقية الأوقات بتربية الأغنام حيث اتخذت هي وبعض النسوة مكان خاص أسفل الجبل عند السلسلة الجبلية زريبة ، وضعت فيها بعض العنزات والجديان ، التي ما أن تطلق سراحها لتشرب الماء حتى تجدها تقافزت هنا وهناك صاعدة لقمة الجبل في حيوية ونشاط ومن فرط انسجامها مع حيواناتها ، أسمتهم بأسماء بشرية ، فكانت تنادي العنزة الكبرى بتابغورت وهي التي ينقاد خلفها بقية القطيع ، فعندما يحين موعد الرجوع إلى المعقل ، كانت تناديهم بالاسم لتجمع شتاتهم فأحياناً تبدأ بتابغورت فينحدر بقية القطيع استجابة للنداء نزولاً إلى السفح ومن ثم إلى المعقل .
كانت تلك الألفة ، تلك الحميمية هي التي ساعدتها في اجتياز عتبة السنين الغابرة صحبة خلان الوفاء الذين لا يفسدون مزاجها بالطلب الدنيوي الذي كثيراً ما يفرق الأهل ويباعد الأحبة عن بعضهم البعض محدثاً شرخاً كبير وجرحاً عميق لا يلتئم حتى بعد مضي أزمان لدى البشر .
ذات يوم ، مر على ألجمت وقت عسير من أيام الزمن الأغبر ، حيث ضيق عليها الدهر الدائرة فاحتاجت إلى معونة حيث ليس لديها ما تطعم به القطيع الذي كانت توفر له أسباب المعيشة ، فقررت أن تبيع إحدى الجديان لتوفر بثمنه القوت للآخرين ، سيطرت عليها الفكرة طوال الليل وهي تعد النجوم وفي تلك الليلة بالذات كانت الجديان تصرخ بحدة على غير عادتها بنداء مجهول يمزق سكون الليل بأنين يشبه أنين البشر ، بل عندما هرعت إليهم رأت رغم عثمة الظلمة في أعينهم خوف شديد وكأنه أندار بالفجيعة .
في الصباح ذهبت كالعادة لتحلب العنزة تابغورت ، لكنها لم تجد استجابة ، فشحت في ذر الحليب ، وبمجرد أن وصل الشخص الذي سيشتري بدأت العنزات والجديان بالصياح أو بالأحرى النواح ، أشارت العجوز إلى تابغورت لبيعها ، فوقع نظرها في نظر العنزة ، فنزت العين بالدمع ولسان حالها يقول لألجمت (أين الوفاء أيتها الأم الحنون ، أتبيعين أبنائك بحفنة من المال ، وكيف تجرئين على قطع جسدك ) لتطعمي جسدك ، قرأت العجوز الوصية في عين تابغورت فاستبدلت على الفور الصفقة بقلادة نزعتها من على جيدها .
** المهدي جاتو **