تحقير الرموز ثقافة ليبية

تحقير الرموز ثقافة ليبية

  • المهدى يوسف كاجيجي

فى سنة 1943 م، أسس سعيد فريحة دار الصياد اللبنانية وقام بإصدار مجلة الصياد تلتها جريدة الانوار ثم توالت الاصدارات لعدد من المجلات المتخصصة. ارتبط الرجل بعلاقات صحفية وسياسية واسعة فى القاهرة ، من اشهرها صداقته مع التوأم مصطفى وعلى امين ، اصحاب مؤسسة اخبار اليوم المصرية ، ومحمد حسنين هيكل رئيس تحرير الاهرام. كانت الانوار تنشر مقاله الاسبوعى الشهير” بصراحة ” بالتزامن مع الاهرام ، وعرف عنه علاقاته الجيدة مع عدد من الملوك والرؤساء العرب من اهمها الرئيس عبدالناصر.

الدنيا لنا ولكم التاريختشرفت بمعرفة الرجل عندما عملت مراسلا صحفيا لدار الصياد من ليبيا ، بعد اغلاق الصحف الخاصة. كان متحدثا لبقا ، وصاحب حضور مذهل ووفاء نادر. يحكى عنه: أنه ، بعد سجن مصطفى امين ، لم يشفع احد له امام جمال عبد الناصر كما شفع له صديقه سعيد فريحة ” ويقولون ايضا: ” الثمرات الاولى من تفاح لبنان كانت تصل الى سجن مصطفى امين قبل ان تصل الى بيت سعيد فريحة ” والحكاية التالية منقولة عن الاستاذ هيكل : ( وصل سعيد فريحة إلى القاهرة ، وفى طريقنا لمقابلة الرئيس، اتفقت معه على تجنب اثارة موضوع مصطفى امين بسبب ظروف حرب الاستنزاف والحالة الصحية للرئيس، وعندما ساله الرئيس عن الاحوال فى لبنان، اجاب : انه عائد من رحلة بحرية كانت على يخت الامير فهد بن عبدالعزيز فى الريفيرا الفرنسية، وهناك التقى بعلى امين، الذي استقبله باكيا حزنا على توامه المسجون مصطفى. تجهم وجه الرئيس وردّ غاضبا : يا استاذ سعيد ، اطفالنا يموتون فى بحر البقر، وشبابنا يستشهدون فى حرب الاستنزاف ، وانتم ترقصون فى الريفيرا الفرنسية.

استدرك سعيد فريحة المازق الذى اوقعنا فيه وبذاكرة حاضرة ردّ وبلهجته اللبنانية : يا فخامة الرئيس ، من فضلك لا تغضب. هناك فرق بيننا وبينك .. نحن إلنا الدنيا .. وانت إلك التاريخ. يقول الاستاذ هيكل: ضحك الرئيس ولاول مرة يحدد تاريخاً للافراج عن مصطفى امين بقوله :اعدك باطلاق سراحه لما يمشوا اليهود من سيناء ) بعد رحيل عبدالناصر علق سعيد فريحة بقوله : للاسف مشى عبدالناصر اولا. التحقير .. ثقافة ليبية !![ لنا الدنيا.. ولكم التاريخ ]، هذا هو القول الفصل بين اقدار الرجال فى رحلة الحياة. وهذا ليس قصرا على الزعامات السياسية وحدها، بل يشمل كل اصحاب العطاء من اهل العلم والفكر والعمل العام ، الذين اختارتهم اوطانهم ، كنموذج قدوة لتميزهم فيتركون لنا بصماتهم على صفحات التاريخ ، والاوطان العظيمة تحتفى برموزها، تتغنى بامجادهم ، تستدعي ذكراهم فى السنين العجاف، وتستلهم من \تجربتهم العبر، تدوّن اسماءهم بحروف من نور، وترفعها على شوارعها وميادينها. والاوطان المريضة تئد رجالها، وتعمل على تحقيرهم ، بل تتنكر من بنوتهم. والمتابع للمشهد الليبي، يرى بلادا تنحدر بسرعة إلى الهاوية ،تاكل فيها العقل ، وهربت منها الحكمة، واختفى الحب ، بلد تحلم بانتظار المنقذ دون جدوى، كانها عقمت منذ زمن بعيد، اختفت فيها الرموز والنموذج القدوة، بلد لم يعد فيها كبير . فى المقابل هناك حالة من التلذذ، بمواصلة جلد الذات ، وزرع الشك والتحقير للرموز قديمها وحديثها ، وما يحدث للاسف ليس بجديد. يرى المفكر الليبى الكبير استاذنا عبدالله القويرى رحمه الله وهو اشهر من كتب عن الكيان والهوية والشخصية الليبية ،ان الجحود والتنكر والتحقير للرموز الوطنية ثقافة متوارثة فى ليبيا منذ القدم ، وكان يردد ساخرا: الشيخ عمر المختار، اسطورة الجهاد الليبي، لو كتب له العيش بعد الاستقلال وكان محظوظا، ربما تمكن من الحصول على وظيفة بواب مدرسة فى قريته سلوق .بلاد الكلب !!اتذ كر عندما سقط النظام الملكى، القي القبض على السيد احمد الصالحين الهونى وزير الاعلام، وقتها ذهبت الى بيته مواسيا لوالده عمي سيدى الصالحين، لا زلت اتذكر كلماته:( يا وليدى .. هذه بلاد الكلب اللى يطلع فيها يقولوا اصله كلب ،واللى ينزل يقولوا يستاهل الكلب ). والامثال كثيرة وليس غريبا فنحن بلد نكتب التاريخ بقلم السلطة ، والصدفة هى الاستثناء. الحصاد المر !!راجعوا تاريخكم عبر كل الحقب ، ولا تذهبوا بعيدا، ابحثوا فى ذاكرة الوطن عن النهايات لمعظم الرموز من الرجال الذين لعبوا دورا فى مسيرة هذا الوطن، ستكتشفون انها نهايات واحدة ومتشابهة ،الانسحاب من المشهد نتيجة وصول قطار العمر لمحطته بالتقاعد أو الرحيل، او التغيير فى شكل الدولة او مناطق النفوذ، يعقبه النسيان والاهمال فالجحود والنكران، والسجن فى بعض الاحيان. رموز وطنية خدمت الوطن بأخلاص، ٬من منطلق الدولة وليس النظام. والنتيجة حصاد مر، وغصة فى الحلق. إن ما تعيشه ليبيا الأن يبدو وكانه أزمة ” قيادة ” والحقيقة انها أزمة انعدام الثقة بالنفس، نتيجة اختفاء الرموز والخبرات الوطنية عن المشهد بسبب الإقصاء و التحقير. ولكن شعاع الأمل لم يخبو بعد فى عقولنا وقلوبنا، وسيقودنا في النهاية للخروج من هذا النفق المظلم، لأن ليبيا لم تعقم بعد.• الصورة: صحيفة “بريد برقة ” الصادرة سنة 1931 ، وعنوان رئيسى ” القبض على عمر المختار زعيم العصاة ” ، ومفتي ليبيا يلقى كلمة امام زعيم الفاشيست موسولينى، ترحيبا واحتفالا بهذه المناسبة. والسؤال: ماذا لو لم تخسر ايطاليا الحرب ؟! .سبق النشر على صفحات ليبيا المستقبل.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :