ثورات الجيل الثالث وصناعة التفاوت

ثورات الجيل الثالث وصناعة التفاوت

بقلم :: موسى الاشخم

 شهدت العقود الثمانية الأولى من القرن الماضي، تنامي التيارات الاشتراكية، وظهور مفهوم دولة الرفاه الاجتماعي، وانتشار السياسات الكينزية واتساع دائرة تأثيرها في العالم. وأدى ذلك فيما أدى إليه إلى تضييق الفوارق الطبقية، وتقليل التفاوت في الدخول، وحصول الفقراء على بعض الاصول العقارية والصناعية والمالية.

وصار الفقراء أو ذوي الدخل المحدود يزاحمون الأغنياء في الأماكن التي اعتاد الأغنياء الانفراد بدخولها أو استخدامها؛ فصاروا يزاحمونهم في الطرقات بعد ان تمكنوا من اقتناء السيارات، كما زاحم الذين لا يملكون سوى جهدهم الأغنياء في المنتجعات السياحية، وفي المقاهي الراقية، والمسارح الراقية، وشعر الأغنياء بالغصة في الحلق، والشعور بالضعة وفقدان التمايز، وشعروا بأنّ كل شيءِ صار مثل كل شيءِ، وكل واحد مثل كل واحد.

وصارت الحدود تتقلص بين الذوات وأولاد العائلات الغنية وبين الفقراء أو الدهماء والسوقة؛ فاعتنق الاغنياء عقيدة انقلابية أسموها الليبرالية الجديدة، والتي نظّر لها كل من فردريك فون هايك وميلتون فريدمان، وترمي إلى إعادة الأمور الي نصابها!

بعد أن اختلط الحابل بالنابل، وصار كل شيء مثل كل شيء، وصارت النخب كالدهماء! ونبلاء المال كالسوقة! وأخذ عدد من منظري عقيدة السوق – على رأسهم الفيلسوفان والاقتصاديان النمساوي فردريك فون هايك، والأمريكي ميلتون فريدمان- على عاتقهم إعادة الفقراء إلى كانتوناتهم ذات الشقق المستأجرة والضيقة، والشوارع الخلفية.

بل ولأكواخ الصفيح في بلدان نصف الكرة الجنوبي، وربما العودة إلى ركوب الدواب والعربات الخشبية التي تجرها الخيول وغيرها من الدواب، وعلى أحسن الفروض التخلي عن ملكياتهم المتأتية من الاشتراكية أو من مكتسبات سياسات دولة الرفاه الاجتماعي الكنزية.

وبدأ الأمر باجتماع عدد من منظري الليبراليين الجدد، على رأسهم فردريك فون هايك، وميلتون فريدمان، ولودفيغ ميسز، لتأسيس جمعية حملت اسم جمعية “مونت بليران” وأصدرت بياناً يمكن اعتباره أول وثيقة يسعى مصدروها إلى محاولة إعادة انتاج نظام الإقطاع الزراعي في صيغة جديدة يمكننا تسميتها بالإقطاع المالي. ولكنهم للتعمية اسموها بالليبرالية الجديدة.

وسرعان ما حاول مصدروها تكريسها كعقيدة دينية و”دوغما” تجعل من السوق قطب الرحى لكل القيم والمؤسسات السياسية والقانونية السائدة بعد تفريغ الممارسات الليبرالية الصورية من أي معنى. ثم تعززت تلك الوثيقة بالعديد من الإصدارات، التي حاولت تكريس عقيدة السوق كدين ودين وحيد للعالم يُكفر من يخرج عنه،  يأتي في مقدمتها كتاب ميلتون فريدمان ” الرأسمالية والحرية”.

وبدأ الأمر بتكفير كينز والكنزيين من خلال تنظيرات النقديين والتوقعات الرشيدة واقتصاديي جانب العرض، وكافة المنظرين الذين ينضوون تحت لافتة التقليديين الجدد، وينقلبون على الكينزية ويدعون إلى نبذها، واعتبارها مصدر الشرور والخطيئة الكبرى، وذلك لانحرافها عن النظرية الكلاسيكية الاورثودكسية. وتعزيزاً لهذا النهج وبالتزامن مع انهيار الاتحاد السوفيتي ظهرت مقولات نهاية اليوتوبيا، ونهاية الايديولوجيا، ونهاية التاريخ، وكافة هذه المقولات تهدف إلى تكريس عقيدة السوق كدين وعقيدة، تقصي العقائد، وحتى النظريات والايديولوجيات الأخرى، بحجة موت الأيديولوجيا تارة، وموت الحلم بعالم أفضل “اليوتوبيا” تارة أخرى وبحجة نهاية التاريخ طوراً أخر. وكافة هذه المقولات تكرس عقيدة السوق كعقيدة أبدية، ومن ثم فأية يوتوبيا جديدة أو أيديولوجيا جديدة، لا تتجاوز كونها هرطقة عقيمة وفقاً لقساوسة السوق أو قساوسة الليبرالية الجديدة. وترمي هذه العقيدة إلى الانقلاب على المكاسب الاشتراكية، ومكاسب دولة الرفاه الاجتماعي الكنزية، التي ظهرت متأثرة بالتيارت الاشتراكية ولو بطريقة المثير والاستجابة؛ إذ كانت ترمي إلى الحيلولة دون ترك الجمهور فريسة للتيارات الاشتراكية المتنامية أنذاك.

وتأكيداً لما ذهبنا إليه أصدر المشرعون في الولايات المتحدة قانوناً ينص على تخوين المتأثرين بالاشتراكية والنقابية عرف باسم مرسوم الولاء لترومان الذي جرّم النشاط النقابي العمالي والتأثر بالاشتراكية واعتبرهما شكلاً من أشكال الخيانة الوطنية، يقتضي الأمر مجابهتها بالعزل من الوظيفة كحد أدنى، والمحاكمة، وإصدار احكام قد تصل إلى الإعدام لحامل فيروس الاشتراكية والنقابية في حدودها القصوى.

وتتضمن وصفة الليبراليين الجدد الدعوة إلى الخصخصة، وتحرير الاسعار، وتحرير الاجور، وتحرير اسعار الصرف، وتحرير التجارة الخارجية، وتقليص الحكومة، وتقليص النفقات الاجتماعية، وتخفيض الضرائب على الأرباح. وهذه السياسات تهدف الي الانقلاب على المكتسبات الاشتراكية، ومكتسبات دولة الرفاه الاجتماعي الكينزية. وتأسيس دولة السوق التي يحكمها رجال الأعمال، وتحتكم الي قوانين السوق المستندة الي حرية السوق، أو بمعنى أدق حرية رجال الأعمال في عمل ما يشاؤون.

الليبرالية الجديدة وصناعة التفاوت

حين تطلع على وصفات الليبرالية الجديدة للإصلاح الاقتصادي تبهرك عبارات التحرير، وتجد نفسك منحازا للحرية فمن منا يعترض على الحرية والتحرير، غير أنّ تلك الوصفات صيغت من قبل تجار لهم باع طويل في الدعاية التجارية، التي تجعلك تلهث وراء استهلاك ما لا يلزمك، وحتى ما لا ينفعك بل وما يضرك؛ فتحرير الأسعار يعني أن تسمح للأسعار بالارتفاع دون حدود؛ والأسعار مرنة الي أعلى وليست مرنة إلى أسفل كما تؤكد البيانات الاقتصادية ووقائع التاريخ الاقتصادي. والأسواق السائدة يحكمها التواطؤ وغير محكومة بالمنافسة الكاملة، كما يوهمنا بذلك المنظرون الليبراليون والنظرية الاقتصادية السائدة. والباعة المتواطئون يمكنهم تحديد سقف لمبيعاتهم، ومن تم يمكنهم أن يحددوا أرضية سعريه لمنتجاتهم أو حد أدنى لأسعارهم. وهو ما يؤدي الي ارتفاع المستوى العام للأسعار كل مرة، يتفق فيها الباعة على أرضية جديدة لأسعارهم. وتتكفل معدلات التضخم العالية بصناعة التفاوت، حين تأتي على ملاليم الذين لا يملكون سوى جهدهم ويعملون بالأجر.

ناهيك عن أنّ الوصفة الليبرالية الجديدة تشتمل على تحرير الأجور وهي المرنة الى أسفل أي أنّها تنخفض باستمرار خاصة اذا تعلق الأمر بالأجر الحقيقي. وغني عن البيان القول بأنّ الليبراليين الجدد معادون لاتحادات العمال، ويعتبرون مجرد وجودها انحراف عن حرية السوق، وشكل من اشكال الاحتكار. بينما يغضون النظر عن التواطؤ الذي يمارسه رجال الأعمال “باعة ومنتجون” دون توقف.

الثورات الملونة وصناعة التفاوت

حين صمم متخذو القرار وصانعو السياسات في الولايات المتحدة والغرب الثورات الملونة، صُممت للانقلاب على المكتسبات الاشتراكية، ومكتسبات دولة الرفاه الاجتماعي، بل وحتى للانقلاب على مكتسبات التحرير الوطني والدولة القومية “الوطنية” حين تعلق الأمر ببلدان نصف الكرة الجنوبي؛ حيث رفعت الثورات التي اندلعت في البلدان النامية شعارات غامضة مثل الحرية والكرامة التي لا تجيب على التساؤل كيف؟ ولم تطرح قيادات تلك الثورات أية شعارات تتعلق باحترام السيادة الوطنية والتحرر الوطني، أو تدعو لرفض التدخل الاجنبي في الشؤون الداخلية؛ ذلك أنّ هذه الثورات التي تستند إلى عقيدة الليبرالية الجديدة عقيدة النخب المسيطرة على المال في الغرب كعقيدة لها، وإلى الدعم المادي والمعنوي الامريكي والغربي لها، بل وشكلت آلة الإعلام الغربي والدعاية الغربية ضد الدكتاتورية خط الدفاع الأمامي لها. وجل قادة الجيل الثالث من الثورات والتي عرفت بالثورات الملونة ينتمي إلى النخب المسيطرة على المال في بلدانهم ” أولاد العائلات” والمرتبطة مصلحياً بمراكز السيطرة على المال والجاه في بلدان المركز الرأسمالية، ويعتبرون بلدانهم هبة من هبات المجتمع الدولي، والقوى الكبرى التي يصرون على أنها قد ساندت استقلال بلدانهم، ومدت لهم يد العون والمساعدة! وذلك من خلال سياسات امبريالية المساعدات ونشر القواعد.

أدوات الليبراليين الجدد لصناعة التفاوت:

اراد تحالف المتباكين من تضييق الفوارق بين الطبقات، إعادة الأمور إلى نصابها، وذلك بحفظ المقامات؛ فكيف لنبيل من نبلاء المال أن يرتاد مقهىً راقياً فتصل إلى أرنبتي أنفه رائحة عرق الذين لا يملكون سوى جهدهم من اصحاب الياقات الزرقاء؟

وكيف لنبيل المال الذي يمتطي فيراري أو أية سيارة فارهة أخرى أن يحتمل أن يتشارك الطريق مع داوو سيلو يقودها أحد الذين لا يملكون سوى جهدهم من اصحاب الياقات الزرقاء؟ وحتى لا يتأذى نبلاء المال من مزاحمة السوقة والدهماء، تبنى قساوسة الليبرالية الجديدة أو صناع الفكر والسياسات منهم حزمة من السياسات أسموها الإصلاحات الهيكلية، تلوك عبارات التحرير والحرية: منها تحرير الأجور، وتحرير الأسعار، وتحرير سعر الصرف، وتحرير التجارة الخارجية. ترمي في مجملها إلى صناعة التفاوت، وترسيخ نظام الإقطاع المالي، الذي يمنح كل شيء لنبلاء المال، وينزع كل شيء من الذين لا يملكون سوى جهدهم، ليعيدهم إلى مستوطنات “كانتونات” الفقراء التي خرجوا منها قبل عقود كحي هارلم في نيويورك، وكامبو عكارة في طرابلس وما في حكمهما. حيث تحرير الأجور يعني تركها تنخفض، وتحرير الأسعار يعني تركها ترتفع، في أسواق محكومة بالتواطؤ بين الباعة والمنتجين، وفي ظل غياب القدرة على أية ردة فعل من قبل المستهلكين. وتحرير سعر الصرف يعني التدهور المستمر في قيمة العملة المحلية في ظل الركون إلى استخدام الدولار كوحدة تحاسب دولية، وهو ما يؤدي إلى انعدام الطلب الخارجي على العملة المحلية. في حين يؤدي تحرير التجارة الخارجية في بلدان نصف الكرة الجنوبي إلى إغلاق الصناعات الناشئة، وتسريح العاملين بها، وهو ما يفاقم من تدني القدرة الشرائية للذين لا يملكون سوى جهدهم من الفقراء وذوي الدخل المحدود. وإجمالاً فإنّ هذه السياسات رسمت من أجل صناعة التفاوت أو بمعنى أدق إعادة صناعته، وحفظ المقامات، وحتى لا يصير كل مثل كل شيء وكل واحد مثل كل واحد.

والمتتبع لنتائج الجيل الثالث من الثورات، يلاحظ القفزات غير المسبوقة للأسعار في البلدان التي شهدت ثورات ملونة، تنتهج الليبرالية الجديدة كنظرية ثورية لها! حيث بلغ معدل التضخم في بولندا عام 1989 حوالي 251%، وبلغ في بلغاريا حوالي 400%، وبلغت في التشيك عام 2003 حوالي 114%  وبلغ 50% في رومانيا عام 2000، وبلغ في استونيا عام 1991 حوالي 202%.

ناهيك عن التدهور الكبير في قيم العملات الوطنية في تلك البلدان، وما يستدعيه من تضخم مستورد. وحين تصل معدلات التضخم إلى هذه الأرقام الفلكية، في ظل ثبات الأجور النقدية وتدني الأجور الحقيقية، يبيع الفقراء منقولاتهم وعقاراتهم ليقتاتوا بها ويختفون عن الأنظار في الأماكن الراقية؛ فيتوقفون عن إيذاء نبلاء المال ونبلاء الجاه. فيستعيد نبلاء المال أنفاسهم، وتُحفظ لهم هيبتهم، ومقاماتهم، وتنتهي فوضى المقامات التي صنعتها الاشتراكية، وسياسات دولة الرفاه الاجتماعي في الثمانية عقود الأولى من القرن الماضي.

هامش: ثورات الجيل الأول تنصرف إلى الثورات الوطنية للتحرر من الاحتلال الأجنبي، وثورات الجيل الثاني تنصرف إلى الثورات الاشراكية، وثورات الجيل الثالت تنصرف إلى ما سمي بالثورات الملونة.

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :