جثة مجهولة الهوية

جثة مجهولة الهوية

كتب :: فايز التويجيري

“5 جثث مجهولة الهوية في مركز طرابلس الطبي، على من يتعرف عليهم أن يأتي حالا للمستشفى”، فوجئ ابني الذي لم ينهِ امتحان الدور الثاني للشهادة الإعدادية بهذا الإعلان، ووجه أخيه الأكبر من بين صور الجثث. ابني البكر، قرة عيني ومهجة فؤادي، بطل من أبطال الكتيبة التي انضمّ إليها منذ عامين، ها هو جثة هامدة.

لا كلمات تستوعب صدمة رؤيتنا للإعلان حينها، شلل أصابني لمدة غير معلومة من الوقت، ثم تبادلت ووالده اللوم والشتائم بسبب الفاجعة، قمنا بلعن الأمر الواقع والظروف التي أغرته بالانضمام للكتيبة، أراد الزواج فقط لا غير، ولم نملك ما نزوجه به، أثار انضمامه حفيظتنا في البداية، ولكننا نسينا السبب الرئيسي عندما عشنا عز الألوفات الشهريّة مقابل دوريّة واحدة أو اثنتين، ولم نعد نعاني شح السيولة، وأصبح لدينا سيارتان وثلاثة بعد أن كنا لا نستعمل إلا “الإفيكو” و”البيجو”، لم نتعرف على خدمات البطاقات المصرفية التي يشكو منها الناس، لم نهتم بمنحة أرباب الأسر، فقد صار ابننا البكر هو رب الأسرة ومنقذنا من الفقر الذي اجتاح الجميع … الجميع فيما عدا من انضم للكتائب أو وجد طريقة أخرى لكسب الرزق بمعجزة!

ابننا نسي بدوره أمر زواجه، وانغمس معنا في “العز”، اشترينا بيتًا جديدًا بأثاث عصري في منطقة من أرقى مناطق مدينتنا، ولم نأبه بنفور بعض الجيران منّا بعد رؤية ابني يحمل سلاحًا مرة وهو يرتدي “شبشب صبع” و”كانتيرا”، لقد استيقظ من نومه يومها وانطلق مسرعًا لدوريته لا مباليا بكلام الناس عنه. أما البعض الآخر من الجيران فقد أسعدتهم جيرتنا كما بدا لي، باتت النساء تتقرب إليّ، ظننت لوهلة أنهن يتقربن إليّ لتزويج ابني لإحدى بناتهن؛ ولكن اتضح لي لاحقًا أن طموحاتهن لا تتعدى استخراج مرتبات أزواجهن الشهرية المحجوزة في المصارف … غاب ابني الآن وغابت الجارات… ولا واحدة منهن واستني في وفاته، وهو من كان يأتيهم بالمرتبات!

بل كان من الوقاحة من إحدى أقاربي أن تدّعي أن “الرحمة لا تجوز” عليه! إن كان ابني حقًّا لا يستحق “الرحمة”، فلماذا كنتم تتقربون إليه؟ لم سعيتم لإغرائه بهالة من “السلطة” ودعمه ولو بشكل غير مباشر للاستمرار في عمله بالكتيبة؟ ألم يسترجع لبعضكم سياراته المنهوبة؟ ألم يكن يساعدكم في تجنّب المبيت أمام المصارف؟ أم أنكم نسيتم كل هذا بسبب “ميم طاء” قادها ليحارب بها “البرانية”؟ ألم تبالوا بدفعه الثمن؟ أم أن حجّتكم أننا كعائلة قمنا بقبول عمله؟! لكنني والدته، ومن واجبي دعمه للقيام بما يحب، وهو أحب أن يتزوّج، فقط أن يتزوّج!

أعترف أن ضميري يؤنبني، كان ينبغي لي عدم السماح له بالالتحاق بكتيبته في هذه الحرب، كان علي حبسه إلى جواري، حتى تنقضي، ولا بأس لو استمر في عمله في الدوريات فيما بعد؛ لكنه ما كان ليطاوعني؛ المغريات كثيرة، “عز” أكثر، ومال أكثر… لو أن ذلك قد حدث، لما كان ولدي ضحى بحياته من أجل حياتنا الكريمة.

مساء الأمس، اكتشفتُ أن طفلي الذي فاته امتحانه واجتاحه الاكتئاب لأيام بعد رحيل شقيقه، قد قرر الالتحاق بركب أخيه، لا أعلم هل يفعل ذلك كي لا ينقصنا شيء بعد “استشهاد” من يعيلنا ويبذخ علينا، أم أن الرغبة في الانتقام هي دافعه.

أيًّا كان ذلك الدافع، فقد عاد القادة لعوائلهم، عادوا بدباباتهم ومدافعهم وصواريخهم، عادوا لبيوتهم وقصورهم وسياراتهم الفارهة، بعضهم ربما عاد إلى “تركيا” هناك حيث يقيم؛ ولكنهم لم يعودوا لي بجثة ابني، ظلت مرمية على قارعة الطريق، على قارعة الحرب والنضال، حتى تعرفنا إليه صدفة عبر شاشات الهواتف الذكية؛ لهذا، تناولت “كلاشن” شقيقه الراحل، وقفت أمامه أسدّ عليه “كنشيلو” الفيلا، صرختُ في وجهه: “لن أسمح لك ان تكون مجرد جثة مجهولة الهوية أخرى”.

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :