جنون… حرية … ديمقراطية

جنون… حرية … ديمقراطية

قصة قصيرة :: أحمد بشير العيلة

في الحادي عشر من أغسطس؛ ضجّت المدينة بحدثٍ لم يحدث من قبل، خلت الشوارع من المارة، وخفتت حركة السيارات، وتوقفت المدارس والأسواق بشكلٍ غير رسمي، وكأنّه إضرابٌ عام، وبثت الإذاعات المحلية أصوات النفير، وما هو بالنفير، وانتشرت قوات الأمن في الشوارع، كأنها الحرب، وما هي بالحرب، أبواب العمارات والبيوت غُلِّقت بإحكام، حتى النوافذ في الأدوار الدنيا غلّقت، وانتشرت في البيوت قصص الرعب المحبوكة من الجدات والأمهات لصغارهن، وهي بصراحة فرصة لضبط سلوكهم في مناسبة تخويفٍ عامة كهذه، ظل هذا الموضوع هو الحديث الرئيس للناس، ومهما تعددت حبكات الجُمل وما فيها من أفعال وصفات وأحوال، فهناك لازمة واحدة تتردد “مجانين القسم (أ)”…..كان مستشفى المجانين في المدينة خارجاً من رأسها قليلاً على تلةٍ صغيرة ، سميت مع الزمن (تلة الهبلان)، ويبدو أن المستشفى القديم قد بُنيَ منذ أكثر من مائة عام، معاصراً أشكالاً وألواناً من الشخوص التي فقدت عقلها لأسبابٍ أكثرها عاطفية والقليل منها عضوية، ومع تنوع الحالات تنوعت القصص وازدادت تشويقاً مع مرور السرد عبر الزمن، إلا أن ما حدث صبيحة الحادي عشر من أغسطس بإعلان إدارة مستشفى المجانين عن هروبٍ مُحْكم لستةٍ وعشرين مجنوناً من القسم (أ) المحصن بإحكام، أثار الرأي العام بشدة، ليس تخويفاً فقط من شر هؤلاء المجانين فاقدي العقل تماماً، بل ازداد الجدل حين أردفت إدارة المستشفى معلنةً لوسائل الإعلام أن الهروب تم وفق (خطة دقيقة) !!.

بدأ الجدال على صفحات التواصل الاجتماعي على موضوع الخطة الدقيقة للمجانين، ويبدو أن واضع التصريح مستشارٌ إعلامي ذكي، أراد أن يُلهي الناس عن الإشارة بالاتهام لإدارة المستشفى، وجعلهم يخوضون في مسألة جدلية بعيدة، وبالفعل اشتعلت معركة فكرية في الإذاعات والصحف واندلعت خلافات أكاديمية ونظرية حول موضوعات: العقل والحرية، بل الجنون والحرية، ومدى الظلم الشخصي والاجتماعي في اعتبار هؤلاء الذين يخططون بدقة مجانين أصلاً؟!،

وتكلم الكثير عن العقل خارج نطاق العقل، ومناطق التفكير السليم عند المجانين في ذروة الأزمات النفسية، واستدعاء العقل عن الحاجة للحرية، والتفكير وغريزة البقاء، وتوالد من النظريات نظريات ونظريات، لم تحسم أيٍّ منها النقاشات المندلعة هنا وهناك، التي سقطت شراراتها خارج حدود البلاد، لتصبح قضية مجانين القسم (أ) العقلاء، قضية فكرية وإعلامية جدلية لم ولن تُحسم.توالت ليل نهار إعلانات الجيش وبيانات الجهات الأمنية وتصريحات المسؤولين، واجتمعت كلها على أن: “الجهود مبذولة بأقصى ما يمكن، ولكننا لم نعثر على أي هاربٍ أو مجنونٍ، وكأنهم لم يخلقوا أصلاً”.

مع الأيام، خفت الإجراءات الاحترازية غير الرسمية التي صنعها الناس في أزمة المجانين الهاربين، بل وصلت القناعات أنه لن يعثر عليهم أبداً، وأيضاً كثرت وتنوعت القصص المفترضة عن ذلك وأثارت بل وألهبت المخيلة الشعبية، فمهم من قال أنهم سقطوا في شقٍ عميقٍ في الأرض حين حفروا تحت سور المستشفى، ومنهم من قال بأنهم ليسوا بشراً، والدليل على ذلك أنهم بلا عقل، وبمجرد خروجهم من الحيز المكاني لهم؛ ارتقوا إلى المجهول، ولا ننسى الحضور الدائم لنظرية المؤامرة في حالات الأزمات، فقد يكون وراء الموضوع جهات غربية إمبريالية صهيونية، خطفوا المجانين ليجروا عليهم تجاربَ ما، بل دعوا لحماية الأمن القومي واعتبار قضية اختفاء المجانين قضية أمن قومي…..بعد سنتين، أثيرت في الرأي العام قضية أخرى مستجدة، هي اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وبدأت المعارك السياسية في كل مكانٍ في البلاد، وتراجعت كثيراً قضية المجانين، وحل محلها قضايا وقضايا..في صباح اليوم المعلن لبدء الحملات الانتخابية، ضربت الصدمة أهالي المدينة، بل البلاد بأكملها، وبهتوا جميعاً .. شُلّت حركتهم وهم يقفون أمام الصور الكبيرة لمرشحي الانتخابات، ما هذا؟

إنهم المجانين الستة والعشرون، الذين اختفوا بعد هربهم من مستشفى المجانين بخطة دقيقة!! هذه صورهم، من رشحهم وكيف؟ كيف ذلك، لم يمتلك أي مواطنٌ الإجابة، بل ظن الناس أنفسهم هم المجانين والمرشحون هم العقلاء، والغريب أن هؤلاء الستة والعشرين مجنوناً قد فازوا جميعاً في الانتخابات، واحتلوا مقاعد برلمانية، قال أبي يومها:- “لعلها الديمقراطية”.

أحمد بشير العيلة 11 أغسطس 2021الصورة المصاحبة: “امرأة بأذرع مرفوعة” 1936، زيت وفحم ورمل على قماش 50 × 61 سم، للفنان بابلو بيكاسو (1881- 1973)

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :