حجر المعرفة

حجر المعرفة

  • د :: سالم الهمالي

إبان دراستي الجامعية فِي ثمانينيات القرن الماضي بلغ الحجر المعرفي مداه، اذ اذكر ان بعض الكتب بقسم المراجع بالمكتبة المركزية بجامعة قاريونس كان محجوزة داخل دواليب عليها أقفال، لا يسمح للإطلاع على ما فيها إلا للقلة بعد ان تسجل اسماءهم والغرض من الاطلاع.

آنذاك، كان افق المسموح به لا يتجاوز ما يتوافق مع رؤية النظام للعالم، فهو او من يمثله يقرر ما يمكن ان يعرض في الأكشاك والمكتبات وغيرها من الأماكن التي توفر فرص الإطلاع. تبادل الكتب والاشرطة (الكاسيت) الممنوعة محفوف بمخاطرة كبيرة، اذ مجرد ضبطك متلبسا يجعلك أسوأ ممن يتداولون الحشيش والمخدرات.اشير إلى ان الامر لم يكن حكرا على ليبيا فقط، بل هو شيء مشاع في كل الدول التي تقولب عقول مواطنيها على برنامج السلطة، سواًء كان ذلك قائد او حزب او تيار سياسي معين، مع واجب الاعتراف ان مجال المسموح به يضيق ويتسع قياسًا بشدة تطرف نظام الحكم في آراءه ومواقفه السياسية.

لو قراءت كتاب لماركس فأنت شيوعي الهوى، أما اذا وجد في بيتك او مكتبتك فهذا يكفي للاتهام بالانتماء الى الحزب الشيوعي السوفيتي والولاء للينين وستالين، كما هو الحال مع كتب سعيد حوى وتهمة الانتماء للإخوان المسلمين خصوصا او الاسلام السياسي على العموم. تداول السياسة او الدين او كليهما هو الخطر الذي تخشاه انظمة الحكم، وتحرص على احتكاره بمنع فرص تسرب اي فكرة او معتقد مختلف.

لا يعبأون بالكتب الاخرى في العلوم والادب والشعر وغيرها، إلا اذا ارتبط اسم الكاتب بمواقف سياسية مخالفة لنظام الحكم.وإن كان تداول الخمور اصبح ممنوعا بموجب قانون صادر من الدولة، فإن صنّاع (القّرابه والتاكيلا) لم يعدموا سبل التحايل للمحافظة على وسائل الإنتاج وطرائق التوزيع بطريقة محكمة، غالبا، ليست بعيدة عن اعين اجهزة الدولة. ومع ان الخمور والمخدرات تذهب العقل لكنها لا تنازع على السلطة … وهنا فارق كبير.أهم ما كان يحتاج التفتيش في حقائب المسافرين هو الكتب والاشرطة تحديدا عند الدخول، اما عند الخروج يكاد الامر ان يقتصر على (الذهب والعملات) وربما الأوراق والرسائل فيما ندر!يكفي كلمة او سطر في مقال ان يمنع عدد لمجلة تصدر خارج ليبيا من التوزيع داخلها، حتى اصبح عدد الجرائد والمجلات التي تباع في الأكشاك قليل جدا، لا يتجاوز اصابع اليدين، أغلبها مضت عليه أسابيع وأحيانا اشهر.تطورَ العالم والتكنلوجيا ولم تتزحزح تلك الانظمة عن أساليبها ومعتقداتها، اعتقادًا بإنها قادرة على السيطرة عبر البوابات والمواني والمطارات لمنع تسرب حرف او كلمة تتناقض مع المعزوفة الشائعة، غافلة عن السيل الهادر الذي هدم الحدود واكتسح البوابات وتجاوز الطائرات عبر موجات الشبكات العنكبوتية، من الايميلات الى الفيسبوك والمسنجر والفايبر والواتساب … وصولا لليوتيوب؛ الذي غيَّر الواقع الى: ادخل يا مبارك بحمارك!!

سواًء كانت بنت الهذلول او بن مكثوم لم تعد وسائل الحجر ممكنة او قادرة على منع انتشار الخبر والمعلومة والفكرة، فاصبحت المعلومات تموج في العالم كما تعوم الحيتان في مياه المحيط، لا سبيل الى إيقافها!(الدش) الذي كان محرمًا في بعض البلدان، اصبح شيوخها أبطال شاشات الفيس والسناب شات، بل انهم يتفاخرون بعدد المتتبعون في ارجاء المعمورة. تلك الحرمة الغير محرمة شرعا، لا تختلف في فهم فلسفتها عن ما تفعله الأنظمة الشمولية في سعيها للسيطرة على عقل أتباعها، اتحدوا في الهدف واختلفوا في الوسيلة، ليس إلا؟!

اليوم يمكن القول ان السلاح (بالمعنى المجازي) الاكثر خطورة هو تكنلوجيا المعلومات، التي هيأت سرعة الضوء لانتشار الخبر، ومن سبق غز النبق!.. وباء كورونا اسهم في تسارع وثيرة التكنلوجيا واختصر الوقت بالقفز على مراحل زمنية، فبعد اضمحلال صناعة الصحافة الورقية، ها هي دور السينما وجهاز التلفزيون في نفس الطريق الى ذات المصير.ليس غريبًا ان تجد خمس او اكثر جلوسا في مكانا واحد، اعينهم تحدق في شاشات، لا احد يكلم الاخر الذي بجانبه بينما هم منهمكون في حوارات عبر القارات على الشاشات!العالم الذي نعيش فيه يتغير بسرعة خارقة أمام اعيننا، لا يحجبها إلا رجل الامن الذي لازال يظن ان التفتيش على الكتب فيه فائدة، غير مدرك ان زمن الحجب على المعرفة انتهى الى غير رجعة.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :