مختار الورغمي
” وننسى متى وأين
وتواريخ كلّ الأسماء
ترتدي أرواحنا
كالبحر لون السّماء” عائشة الشّرقاوي
أقبل المساء كئيبا على غير عادته …نظر إلى سمائه فرآها فراغا بلا عنوان….كان ينتظر بريدا طال غيابه حتّى كاد اليأس يغطّي كلّ مساحات الأمل التي تضاءلت بمرور سنوات الجدب وأيّام الخذلان التي تتابعت دون توقّف…لا شيء في الأفق البعيد يعلن الميلاد ولو كان فرحا كاذبا …أحسّ برغبة في الكتابة فتناثرت الحروف في بادية الغياب وعاندت فريحُ الشّتات أجهضتْ نصوصه في المهد فصار القلم عاقرا وهذا وجه الورقة قد تشقّق بعدما جفاه الحبْرُ فصار بورا،خرابا عوت فيه ريح الجدب فاصفرّ كالورْس وأنهكه انتظار السّراب….مشى متثاقلا بلا وجهة…ربّما جادت عليه الأزقّة برفقة تُعيدُ ولو بعضا من حياة…كان صعلوكا صعْب المراس أرهق المدائن جميعها…لا يجيدُ تزويق الكلام ويفضّلُ الصّمت وإن فاه ببعض اللّفظ فانتظر منه ما لا يُقال …لم تعترفْ لغته بنواميس المدينة فصارت تسمّي الظّلم ظلما والعشق هو العشق ولا تَرى عيبا حين تتغنّى بالحبّ في زمن هو يراه بلا ملامح…تربّى في الصّحراء فعلّمته الرّمضاء الصّبر وشربَ من شموخ النّخيل الكبرياء…لا تنتظرْ منه تراجعا أو استسلاما …واجهَ الموت منفردا حتّى خافه الموت…في كلّ شارع واقعة تشهدُ أنّه كان هنا في اللّحظة الحاسمة…كلّ وجه يذكّره بمن هربوا …ضحك ساخرا من زيفهم الذي سترته مساحيق هذه المدينة العاهرة…كفر بصمت مدينة خرساء …مدينة جعلت الغلمان أسيادا وحكمتها البغايا ليلا نهارا…لا شيء يجمعه بهذا المكان…اتكأ على عمود في آخر الشارع ليرتاح قليلا…تحسّس جيبه وأخرج حافظة أوراقه…بعثرها كطفل صغير يلهو بلعبة العيد…يااااااه ما هذه الصّورة؟ …كانت صورة ريحانة يوم التقاها صدفة…كم صدفة في حياتنا غيّرت مجرى الرّيح ونحن لا ندري …مازال يحتفظ بكلّ التّواريخ وكلّ الأسماء …لم ينس متى وأين…تأمّلها طويلا …دقّق في تفاصيل وجهها الطفوليّ …قرأ جيّدا أسرار بسمتها المشاغبة…ترى أيّ ريح أخذتك أيّتها الشقيّة؟…هي الوحيدة التي ما كان ينتظر غيابها …استحضر لحظة اللّقاء ولحظة الغياب وما بين اللّحظتين رحلة زادها الحبّ وعنوانها الوفاء…غابت ريحانة لتصبح هذه المدينة كوم رماد بلا معنى …موجع أنت أيّها الغياب حين تأخذ الأحياء فلا نحن ننسى لنرتاح ولا نحن نلقاهم لنسعدَ…موجع أيّها الغياب لأنّنا نبقى بين الأرض والسّماء بين الفجر والبزوغ بين حياة وموت …تاه في ثنايا الغياب ليستيقظ على صوت سكّير يطلب ولاّعة …ترك العمود وواصل رحلة البحث عن الغائبين التي قد لا تنتهي …..