السعداوي وقضية الإبعاد !

السعداوي وقضية الإبعاد !

شكري السنكي

تفاعل مع ما كتبتـه الدكتورة فوزية بريـــون

نشرت الدكتورة فوزية محمّد بريون الشاعرة والأدبية والناقدة، الحاصلة على ماجستير في الأدب الحديث من جامعة القاهرة ودرجة الدكتوراه في الأدب والفكر الحديث من جامعة ميشيغان بالولايات المتَّحدة الأمريكية، في صفحتها الشخصيّة بالفيسبوك بتاريخ 23 فبراير 2023م سطوراً عن بشير السعداوي قالت أنها بمناسبة الظلم الذي وقع عليه والهجوم على بيته ونفيه خارج البلاد في مثل هذا الشهر من من العام 1952م، واعتبرت يوم إخراجه من ليبَيا يمثل ذكرى إجهاض التجربة الدّيمقراطيّة الِلّيبيّة الغضة والّتي استمرت تجهض حتَّى يومنا هذا !.

لفت انتباهي ما قالته الدكتورة فوزية بريون واستغربت تجاهلها ذكر الإضطرابات التي حدثت، وعدم وضع حادثة الإخراج في سياقها الصحيح، مع عدم النفي أو إنكار قسوتها، ولكن الإنصاف يقتضي أن تكون التفاصيل كاملة وألا ننحاز لطرف على حساب طرف آخـر !.

اعتقد أن الدكتورة فوزية جانبها الصّواب كمَا سأبيّن لاحقاً، وأن إبداء رأيي فيما قالت لا يفسد للود قضية، حيث أنني احترمها واحترم زوجها الصديق الدّكتور محمود تارسين، ونحن رفاق درب ووقفنا سوياً سنوات طوال ضدَّ جبروت القذّافي ونظامـه القمعـي الاستبدادي.

قالت الدكتورة فوزية بريون في سطورها المُشار إليها ما يلي: «.. في مثل هذا اليوم من العام 1952م هُجم على منزل الزعيم بشير السعداوي قبل الفجر ليُقتاد مع ابنه عبدالحميد وأخيه الأكبر نوري وابنه زهير بعد صدور قرار نفيهم خارج وطنهم بحجة أنهم يحملون جنسية بلد آخر.. كما نفي زميلهم المناضل أحمد زارم. أمّا السبب الحقيقي فكان تورط أوَّل حكومة اتحادية في عهد الاستقلال في تزوير أوَّل انتخابات نيابية من أجل إسقاط مرشحي المعارضة المتمثلة في حزب المؤتمر الوطني الطرابلسي بزعامة بشير السعداوي، الذي حمل السلاح في شبابه مجاهداً ضدَّ المحتلين وناضل خارج الوطن وبعد الرجوع إليه من المهجـر.

هذا اليوم يمثل ذكرى اجهاض التجربة الديمقراطية الليبية الغضة والتي استمرت تجهض حتى يومنا هذا.

رحم الله المناضل بشير السعداوي وزملاءه المخلصين في هذا اليوم وكل يوم..».

أقـــــــــــــول…..

قضية بشير السعداوي وقرار إخراجه من البلاد في فبراير 1952م عقب أوَّل انتخابات برلمانية بعد الإعلان عن الاستقلال، فيها حيثيات وتفاصيل كثيرة يطول الحديث عنها، وتجعل الحكم في جانبه السياسي لا يكون في صالحه في الكفة الأرجح !!.

ولا شك أن الرجل كان وطنياً ولا أحد ينكر عليه ذلك، ولكن سياسياً هناك ما يقال عنه وما يختلف فيه معه، وقد ظلت ظلال عبدالرحمن باشا عزام ظاهرة على شخصيته وجعلت من مواقفه السياسية متذبذبة في الغالب الأعم وفيها الكثير مما يقال !. وعزام كان يكن العداء الدفين للملك إدريس طيب الله ثراه.

ولا شك أن السعداوي لعب دوراً مهماً فى وحدة ليبَيا، وقد بايع السيد إدريس أميراً وملكاً ثلاث مرات، إلا أنه تحول بعد إعلان الاستقلال إلى معارضٍ، حيث كان يرى احقيته فى تولى رئاسة الحكومة بدلاً من المرحوم محمود المنتصر، واخذ منذئذ يهدد بالإضرابات وزعزعة الأوضاع وقام بعض اتباعه بالتعدي على دوائر الحكومة المختلفة ودخلوا في اشتباكات مع قوَّات الأمن والشرطة أثناء أوَّل انتخابات تعقد في البلاد بعد إعلان استقلالها. ويُذكر أن الإضطرابات بدأت في الليلة التي سبقت الانتخابات، وتمَّ الهجوم على بعض مراكز الإقتراع في المنطقة الغربية وأضرمت النيران في مقرِّ من مقرّات الإقتراع حدث على إثره تأجيل الأنتخابات.

وما يضاف في هذا السياق أيْضاً تراجع العلاقة بين الملك إدريس وبشير السعداوي بعد الإعلان عن الاستقلال، حيث ساءت العلاقة بين الرجلين قبل الانتخابات لأسباب عدة أهمها: تراجع السعداوي عن قبول الشكل الاتحادي للدولة بعد موافقته السابقة عليه، ولا سيما بعد تكليف محمود المنتصر برئاسة الوزراء ولم يتم تكليفه هو كما كان يتوقع !.

كان السعداوي، رحمه الله، يحمل جنسية أخرى «سعودية»، وقد دخل إلى ليبيا بصفته دبلوماسياً سعودياً، وبموجب تأشيرة دخول صدرت له من القاهرة. وقد رفض الامتثال أمام التحقيق بعد استدعائه للاستجواب عقب الأحداث التي شهدتها الانتخابات بحجة امتلاكه حصانة دبلوماسية بصفته دبلوماسياً سعودياً، فأبعد نتيجة ذلك وبصفته مزدوج الجنسية، وذلك وفقاً لأحكام القانون الليبي الذي لا يسمح بالجنسية المزدوجة.

أبعد ولم يسجن، ولم تسئ معاملته بأي شكل من الأشكال. وما حدث له كان إبعاداً وليس نفياً بحال من الأحوال، لأنه كان لا يصح امتثاله أمام القانون الليبي بحكم الحصانة الدبلوماسية التي كان يتمتع بها «دبلوماسي سعودي».

أما ما قيل حول الهجوم على بيته، فهو كلام غير دقيق وأمر لم يحدث على الإطلاق !، فلم يكن هناك أي هجوم على بيته، وكل الذي حدث، وصول قوة إلى بيته هدفت إلى تنفيذ قرار الترحيل إلى السعودية بصورة عادية لا عنف فيها، واعتبرت نفسها قوة حماية مهمتها وصول السعداوي ومن معه إلى المطار ومقاعد الطائرة في أمن وسلامة تامة. وهذا من أكده السيد مختار كانون أحد أفراد البوليس الذين رافقوا السعدواي إلى المطار في شهادة مسجلة على شريط كاسيت، وفيها تفصيل كامل للواقعة، حسبما أخبرني الدكتور بدر المختار الذي سمع تلك الشهادة بنفسه، وقد أكد كانون في تلك الشهادة أنهم عاملوا السعداوي بكل أدب واحترام، واعتبروا أنفسهم قوة حماية له حتَّى يصل إلى المطار ومكانه في الطائرة بأمن وسلامة تامين.

والحاصل كان لدى السعداوي خلافات مع أعضاء حزبه وقد انشق بعضهم عنه فانسحب حوالي «60» عضواً من المؤتمر الطرابلسي الذي كان يتزعمه لما رواه من تذبذب في مواقفه وتأثيرات عزام باشا عليـه. كمَا كانت له خلافات مع أحزاب أخرى حيث صدرت بحقه مذكرة من «هيئة تحرير ليبيا» شرحت فيها مواقف السعداوي وأسباب خلافها معه. وحينما وقعت المشكلة معه على خلفية انتخابات فبراير 1952م التي شابها التزوير وحدثت فيها اشتباكات عنيفة – وفي إقليم طرابلس فقط – أدَّت إلى سقوط 17 قتيلاً وحوالي 200 جريح، وكان السعداوي المحرض عليها وقد توعد الحكومة بالإضرابات قبل انعقاد الانتخابات بفترة، ولذا حصرت الدولة الوليدة التي لم يمضِ على ولادتها شهران كاملان، القضية في شخصه إلى حدٍ بعيد ولم توسع الدائرة كثيراً، حيث تولى عدد من رفاقه مناصب عليا في الدولة الوليدة وبقوا في مواقعهم ولم يطلهم اي أذى، وما يلفت الانتباه أن رفاقه في البرلمان لم يفتحوا ملف قضيته أو يطالبوا بعودته، وكان لديه «5» نواب في البرلمان يتقدمهم نائبه في الحزب السيد مصطفى ميزران، وشخصية أخرى كانت جد معروفة، السيد عبدالعزيز الزقلعي.

ختاماً، تعامل الملك إدريس – طيب الله ثراه – برفق مع خصومه، بل حتَّى مع الذين حاولوا قتله في يوم من الأيام. ويذكر أن الملك كان قد عرض على السعداوي رئاسة الديوان الملكي في طرابلس مثلما يتولاه رفيقه عمر فائق شنيب في بنغازي، وعرض عليه حقيبتين في الحكومة الاتحادية بشرط التخلي عن جنسيته السعودية، ولكنه رفض ولم يقبل بذلك !.

وما يجب تأكده في هذا السياق أيْضاً، أن الملك إدريس لم تكن له علاقة بتاتاً بمسألة إبعاد السعداوي أو ترحيله إلى السعودية، فالقضية كانت في طرابلس وتعاملت معها أجهزة الولاية بعيداً عن القصر ومع السلطة التنفيذية المتمثلة في رئاسة الوزراء بقيادة محمود المنتصر، حيث لم يصدر قرار الإبعاد بمرسوم ملكي حتَّى يناقش هذا الموضوع بإقحام اسم الملك إدريس فيه وكأنه هو الذي أصدره.

رحم المولى عز وجل بشير السعداوي، ورحم الملك إدريس ورجال عهده الميمون، وغفر لهم جميعاً وجعلهم في عليين بجوار الأنبياء والمرسلين.

وهذا ما لزم، وكفى….

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :