حدثتني صباحا وكان حديثها همسا بالكاد يسمع . قالت بصوت مصحوب برعشة طارئة ” الهروب جميل” وسكتت. الهروب لم يكن يوما يا صغيرتي حل المتمسكين بالحياة. نحن نهرب من صورتنا في المراة خوفا من بعض التجاعيد التي تمثل النسخة الاصلية لشهادة الميلاد. نهرب من واقع أنهكنا وننسى أننا نعلن الهزيمة والاستسلام فالهارب بالكاد يميز بين أحجار الطريق وقد يصطدم بذكرى موجعة انتظرته في وادي التاريخ لتسقطه في قاع سحيق فيندم بعد فوات الأوان .
الهروب هو القبح الذي نزينه بمساحيق التبرير كي نقنع ذواتنا بصحة الاختيار . مساحيق باهتة يصنعها العقل التعيس لكنها لا تصمد كثيرا وان طال صمودها فلحظة انهيارها سنبكي دما ولن يفيدنا ندم فما فات فات .
حاولت التلاعب باللغة فشبهت الهروب بالغروب وبالغياب وأسندت لهما نعت الجمال . أبدا يا صغيرتي لن يستقيم الحال وما أقدمت عليه هو اغتصاب للمعنى تمارسه دكتاتوربة العقل المحنط التي خلقت لقتل الانسان الساكن فينا ولنستحيل مجرد أرقام لا تختلف كثيرا عن الروبوت المعدل يتحرك حسب البرمجة .
الغروب يغلفه الأحمر ليكون بهيا بلون النار الهادئة والنار حياة. الغروب يسير الهوينى الى وجهة معلومة أما الهروب فهو الضياع. الغروب هو الهدوء والسكينة أما الهروب فهو الفوضى والاضطراب.
الغروب هو الأمل. أنه لحظة ميلاد جديد تعلنها الشمس وتسألنا انتظار الفجر القادم على مهل . الهروب هو اليأس وانتحار الأمل على اسفلت الايام الهاربة . هما خطان متوازيان لا يلتقيان أبدأ.
الهاربون هم من أضاعوا وجوههم وهاموا في متاهة الحواجز التي صنعت من تخاريف قديمة. الهاربون هم عشاق الاقفاص يصنعونها كي تحميهم من لحظات الحرية المنشودة. الهاربون هم الذين تعاندهم حتى اللغة . العيب ليس فيها بل في اغلال الوهم التي صنعوها وعجزوا عن تجاوزها . اللغة تكتبنا حين نتحرر فتنساب كالماء الزلال تسقي قلوبنا عشقا وحنينا وتبني لنا اعشاشا من الحب نأوي إليها لنواصل التحدي . تستقيم اللغة حين نقتل ذلك الراهب الساكن في أعماقنا يرفع لافتات بعدد نجوم السماء ليذكرنا دوما بالممنوع والمستحيل والمعيب وووو قتل الراهب فينا أول خطوة على درب الحياة….