تقرير : عبد المنعم الجهيمي : مني توكا
خبر وفاة يتلوه آخر ولم يتوقف العدد عند ضحايا اليوم الأول وهو أحد عشر شخصا في حين سقط أكثر من ستين جريحا ، فمنذ فجر يوم الإثنين الأول من أغسطس الجاري، لحظة انفجار صهريج وقود كان قد تعطل بالقرب من قرية الزوية في بلدية وادي عتبة الواقعة على بعد تسعين كيلو مترا جنوب غرب مدينة سبها، الحادثة التي تعتبر الأولى من نوعها في الجنوب، وتعد فاجعة لكل السكان الذين يعانون أزمات الوقود والغاز منذ سنوات تحت سيطرة السوق السوداء بلا منجد.
كان مركز سبها الطبي مكتظا بالناس وعربات الإسعاف، وللوهلة الأولى لن تفهم حركة الناس والأطقم الطبية ورجال الأمن داخل قسم الحوادث الذي يستقبل الحالات ويفترض أن يقدم لها الرعاية الصحية الأولية، وسط ضجيج الناس وصراخ الأمهات تخرج واضحة أنات الجرحى وآهاتهم، كانت هذه الأصوات تخترق كل ذلك الضجيج لتستقر في آذاننا واضحة ومؤلمة،
تراجعت قليلا قبل أن أستجمع قواي وأدلف عبر باب الممر إلى الداخل. كان المنظر مهولا فقد تناثرت الأجساد المحترقة في أرجاء المكان، ومنظر الدماء التي تسيل على أرضية الغرف والممرات وسواد الملابس المحترقة ورائحة اللحم كل ذلك كان كفيلا بأن يدفعك للخروج أو التوقف دونما أي ردة فعل، ولكنني تقدمت لأدخل أول غرفة على يسار الممر، لمحت أحد الجرحى يتحدث بصوت واضح ولم يبدُ عليه أنه مصاب بدرجة كبيرة كغيره، تقدمت إليه مسلما، وكأنه يعلم أنني صحفي، ومن حركة عينيه أدركت أنه يريد التحدث معي وإخباري بشيء ما.
اقتربت منه كان ممدا على السرير والضمادات تغلف رجله اليسرى ويده، بادرني قائلا “أنا الحمد لله خير من غيري ربك نجدني…لكن الناس والله ماتت تحت البوطي”… لم أكن بحاجة لتصديق حديثه، فبجانبه كانت جثة رجل متفحمة بشكل كامل رغم أن صاحبها لايزال حيا وتخرج آهاته بصعوبة، اقتربت من المتحدث وسألته ما الذي حصل وكيف. يقول محمد كنت عائدا إلى المنزل حين لمحت جمهرة الناس على الطريق حول صهريج وقود متوقف، وعلمت أنهم يسحبون الوقود منه كل بطريقته، لم أفكر كثيرا وبدأت في تعبئة براميلي التي كانت في السيارة، لاحظت اندفاع الناس وكنت من بينهم نحو الصهريج، وكيف تحلق حوله الجميع، بعضهم جاء بقنينة وبعضهم ببراميل كبيرة، وبعضهم اعتلى ظهر الصهريج وفتحه وبدأ في التعبئة، مرت ساعات على هذا المنوال، قبل أن يقدم أحدهم على تشغيل بطارية سيارة فوق الصهريج ليتمكن من سحب كمية أكبر من الوقود، ثوانٍ معدودات قبل أن تشتعل النيران بشكل مفاجئ.
كنت خلف الصهريج ولا إراديا اندفعت جريا بدون أن أرى شيئا أمامي، كنت أعدو بكل قوتي رغم أن النيران علقت في بعض جسدي، شعرت بهذه النيران تسحبني للوراء وظللت أقاومها حتى أنهكت قواي وسقطت بجانب شجرة تبعد أمتارا عن الصهريج، فقدت الوعي ووجدت نفسي داخل مستشفى بنت بية وحولي الكثير من الناس الباكين والمحترقين والمسعفين، نظرت فوجدت أرجلي قد احترقت ولكن لازلت أشعر بهما، كنت في ممر المستشفى الذي اكتظ بالجرحى، بعض من أعرفهم وجدتهم في حال يرثى لها من آثار الحريق وبعضهم فقد وعيه من هول المناظر.
يروي لنا علي التارقي أن أكثر من خمس عشر شخصا كانوا تحت الصهريج عندما انفجر، وأن بعض الناس فر من المكان والنار تأكل جسده وفقد حياته على بعد أمتار من مكان الحادث، وبعضهم ظل يتأوه والنار تأكله لساعات قبل أن يتمكن الناس من إسعافه، يقول إنه كان بالقرب من الحدث واصطدم بشجرة مجاورة من هول الانفجار، وعندما استيقظ وجد أشلاء متناثرة من الجثث والجرحى حول الصهريج الذي ظلت نيرانه إلى ساعات الشروق وهي مشتعلة
أوضحت الناطقة باسم مركز سبها الطبي حليمة الماهري، أن المركز استقبل أكثر من خمسين حالة من بلدية بنت بية.
وأكدت أن الحالات كانت متفاوتة فبعضها في وضع خطير واحتاج لعناية مشددة وبعضها متوسط ويحتاج لمتابعة طبية، مؤكدة أن المركز واجه نقصا حادا في عديد الإمكانيات والمعدات، ووجه نداءً لكافة العناصر الطبية والطبية المساعدة لتقدم واجبها في إنقاذ الأرواح، وقد كان.
فبحسب الماهري شاركت فرق الهلال الأحمر والكشافة في تقديم الرعاية الصحية الأولية، كما بادرت الهيئة الطبية الدولية بإرسال فريق طبي شارك في أعمال الإسعافات الأولية وتجهيز الجرحى ليتم نقلهم إلى المستشفيات في شمال البلاد.
الكارثة التي وقعت في بنت بية هي نتيجة طبيعية لقصور الدولة عن توفير الوقود بالسعر المناسب لسكان الجنوب، هذا ما يراه الكاتب محمد أحمد الأنصاري، مضيفا أن الناس وخاصة في القرى تواجه معضلة الوقود على الدوام ولمدة سنوات، وصل فيها سعر اللتر الواحد إلى أربعة دنانير، بينما كان يفترض أن يكون بخمسة عشرة قرشا أسوة بباقي مدن ليبيا، وهو ما تسبب في تكالب الناس على الوقود دون أن يضعوا في حسبانهم موضوع السلامة الذي غاب عنهم جميعا.
ويضيف الأنصاري أن الصهريج تعطل بسبب تهالك الطريق، والناس احترقوا بسبب نقص الوقود وغلاء الموجود منه، وفي هذا تتحمل الحكومات الليبية العبء، فقد فشلت جميعها في حل هذه المعضلة وتركت مواطنيها تحت رحمة أرباب السوق السوداء، ولا يستقيم مع هذا الحال أن تتوقع من جميع الناس أن يكونوا بذات التعقل وهم يرون صهريجا متروكا لا صاحب له ولا يدرون مصيره
نعود لمركز سبها الطبي حيث تصطف سيارات الإسعاف لتنقل الجرحى إلى المطار، زاد الازدحام أمام السيارات من أهالي الجرحى وذويهم، تقول الماهري إن جميع الحالات تم نقلها لمستشفى الحروق بطرابلس ومستشفيات بنغازي، لأن سبها والجنوب لا يوجد بها أطباء حروق وتجميل، وهو ملف يجب أن تعمل السلطات على معالجته للتعامل مع الحالات الطارئة كالتي شهدتها البلاد.
اليوم الثالث بعد الأزمة ولا تزال المدينة والجنوب في حالة غليان، فقد أقدم محتجون على إغلاق الطريق الرئيسية الرابطة بين سبها و أوباري، ومنعوا عبور الشاحنات التي تحمل معدات الحقول النفطية، كما أعلنوا أنهم سيصعدون احتجاجهم في حال لم تضع الحكومات الليبية حلا لأزمتهم التي يعيشونها لسنوات طويلة، في حال تصاعد هذا الاحتجاج فإنه سيؤثر على عمل الحقول النفطية (حقل الشرارة- حقل الفيل) والتي تنتج أكثر من 200 ألف برميل يوميا.
توجه فريق صحيفة فسانيا لعين المكان للقاء أهالي الضحايا.
كانت البداية مع خالة الراحل محمد بوزغاية التي حدثتنا بحسرة قائلة ” ابن أختي من مواليد 95 وهو طالب وذهب لتعبئة البنزين من أجل أن يستطيع أن يذهب ليمتحن وهو ابن أختي الوحيد الذي يخدمها ويساعدها، فقط أريد أن أوضح للجميع أنه لم يذهب أحد إلى موقع الصهريج بسبب الطمع أو الجشع كما يقول الكثيرون، فكل له ظروفه، هناك من لديه زوجة مريضة بالسرطان وتأخذ جرعات الكيماوي وهناك من هو طالب وكليته بعيدة ويحتاج إلى البنزين للتنقل، الظروف هي من اضطرت أبنائنا للذهاب إلى الخطر بأرجلهم
“وتحدثت لنا إحدى قريبات الضحايا قائلة” الجنوب محروم من كل المتطلبات البسيطة والتي هي حق طبيعي لكل مواطن، الطريق غير صالحة محطات البنزين فارغة، نحن نريد حقنا من الثروات التي تخرج من أرض الجنوب، هذا الإهمال هو من قاد أبناءنا للتهلكة وتتحمل الحكومات كامل المسؤولية سواء حكومة الشرق أو حكومة الغرب، الحكومات التي لم تقدم أي فائدة لنا ولكن تستنزف شبابنا وتستخدمهم كوقود للحرب
“. وتابعت” نطالب الحكومات أن تأتي إلى الجنوب أرضاً لتشعر بما نعانيه من مشاكل وصعوبة الطرق المتهالكة، ونحن لن نسكت بعد الآن وسننتفض، هذه ثاني مجزرة في حق الجنوب بعد مجزرة براك الشاطئ، لن نسكت بعد أن احترق أبناؤنا بسبب بضع لترات من البنزين الذي يعتبر حقا طبيعيا لكل مواطن.
وقالت جدة الضحايا علي حسن النغنوغي ومحمد النغنوغي” لدي حفيدان في هذه الحادثة أحدهما توفي وأحدهما في العناية وكل هذا بسبب الوقود ، يذهب أبناؤنا إلى المحطات التي تبدأ بطوابير لا نهاية لها، هناك من له زوجة في حالة وضع وهناك من له شخص مريض فكما يعلم الجميع أنه لا وجود لأي خدمات في المنطقة للدراسة أو للعلاج نخرج إلى سبها أو المناطق الأخرى، الجنوب قتلته الحكومات بالتهميش والأزمات التي لا نهاية لها ، نحن مظلومون جدا هذا ما أقوله. قريبة أحد الضحايا” من شاهد فيديوهات مستشفى سبها الطبي سيرى أن المرافقين يقومون بالتهوية على حالات الحريق بالأوراق، لأنه لا وجود للمكيفات و المولدات بمركز سبها الطبي والذي يعتبر أهم مستشفى ومن المفترض أن تكون الأكثر مثالية لا توجد فيها أي خدمات.
وسيدة أخرى وهي أخت الضحية مسعود عبدالسلام عتيق قالت” نحن بشر مثل المواطنين في الغرب والشرق لسنا مواطنين من الدرجة الثالثة من المعيب أن يصل بنا الحال للتكالب على الوقود، ذهب أبناؤنا للنار للحصول على بضع لترات من الوقود لإكمال أعمالهم في مزارعهم”. وأوضحت ” أخي شرطي وهو ذو أخلاق وكان دائم النصح للشباب وأحتسبه عند الله شهيدا، الذي نقل في سيارة إسعاف بوجود طيران، نحمل الحكومات المسؤولية كاملة، الحكومات التي أصبحت تشاهد وتستمتع بهذه الكارثة لا أعلم إن فقدت الإنسانية أو أن مشاعرها تبلدت ، أتمنى أن يشاهد الجميع وضعنا في الوادي”
. وقال أحد المحتجين في موقع الكارثة ” نحن وصلنا لمرحلة انتزاع الحقوق، بعد هذه الكارثة و لا نخشى شيئا، نحن نحتجّ اليوم هنا في موقع الانفجار ومطالبنا صيانة الطريق وتوفير الوقود، وسنستمر في الاحتجاج إلى حين تلبية مطالبنا والتوقف عن معاملتنا كمواطنين من الدرجة الثالثة “. ومع كل ما سرد سابقاً لا تظهر بوادر تبشر بحل قريب وناجع لأزمة الوقود في الجنوب، والتي تحتاج لجدية الحكومات والمجتمعات المحلية في المنطقة، وهو أمر يتعقد مع الوقت ويكاد يصبح مستحيلا مع الفوضى السياسية والانقسام الذي تشهده البلاد على مختلف الأصعدة.