فسانيا : سلمى مسعود
في أحد الأزقة الضيقة بمدينة بنينا، يجلس علي ناجي محمد المغربي، شاب لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره، يحمل في عينيه نظرة ثقيلة؛ خليط من الخيبة، والألم، والخذلان. لم يكن يتوقع يومًا أن يصبح ضحية، لا لحادث سير فقط، بل لخداعٍ قاسٍ سرق منه المال والأمل.
كان علي مثل أي شاب ليبي، يعيش حياته ببساطة، يعمل ليعيل نفسه، ويحلم بمستقبل أفضل. لم يكن يتخيل أن لحظة واحدة ستقلب حياته رأسًا على عقب، أن حادثًا لم يكن هو المتسبب فيه سيضعه في مواجهةٍ غير عادلة مع الشلل النصفي، مع الوحدة، ومع استغلال البشر لأضعف لحظاته.
لحظة غيرت كل شيء.
كان يومًا عاديًا، شمس الصباح تسطع كما تفعل كل يوم، الحياة تمضي دون أن يعلم أن مصيره على وشك أن يتغير. لم يكن السائق، لكنه كان هناك، في السيارة التي انقلبت فجأة على طريق سيدي فرج.
في لحظات، صار كل شيء ضبابيًا، لم يكن يدرك حجم الكارثة حتى وجد نفسه على سرير مستشفى 1200 سرير، محاطًا بالأجهزة، والأطباء يهمسون فيما بينهم. جاءت اللحظة التي سمع فيها الطبيب يقول: إصابة بالعمود الفقري، شلل نصفي.
لم يكن الألم جسديًا فقط، بل كان طعنة في القلب، كيف يمكن لشاب في مقتبل العمر أن يُحرم من الحركة؟ كيف يمكن أن يصبح فجأة عاجزًا عن أبسط حقوقه، المشي؟
في الأيام الأولى، كان هناك دعم من العائلة والأصدقاء، لكن كما هو الحال دائمًا، بدأ الجميع يعود إلى حياته، وبقي علي وحده يواجه مصيره الجديد. بدأت الوحدة تزحف إليه ببطء، وأصبح الزمن يُثقل كاهله، يحاول التشبث بأي أمل، بأي فرصة للخروج من هذا الواقع المرير.
وهمٌ بُني على الأمل ، والخديعة كانت قاسية.
وسط معاناته، ظهر في حياته شخص لم يكن يتوقع أنه سيكون أكثر من مجرد نصاب، بل قاتل لحلمه.
رجل مجهول الهوية، استخدم اسمًا مزيفًا (عيسى)، تواصل مع علي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قدّم نفسه كشخص من بنغازي، يعمل في طرابلس، وقريب من الحكومة والمسؤولين.
قال له بثقة: “أنا قريب من الدولة، وأدخل مباشرة إلى عبدالحميد الدبيبة، يمكنني إنهاء موضوع علاجك بالكامل.”
كيف لا يصدقه؟ كان في أمسّ الحاجة لمن يقوده إلى بر الأمان. وعندما طلب منه صورة جواز السفر، وجواز المرافق، والتقرير الطبي، أرسلها له دون تردد، كان يرى فيه رجل الخير الذي سينقذه.
كان علي في تركيا آنذاك، يجري الفحوصات الطبية لتشخيص حالته بدقة، وانتظر 10 أيام حتى جاءه الاتصال المنتظر: “الأمور انتهت، تم الترتيب لسفرك، كل شيء جاهز!”
وحين سأله علي إن كان يتحدث بجدية، حلف برأس ابنه ليؤكد كلامه، وهنا سقطت آخر ذرة شك.
العودة إلى ليبيا، والاحتفال بالسفر الوهمي.
كانت هذه فرصة العمر، لم يتردد علي، حزم أمتعته، وعاد إلى ليبيا، ليجد أن المحتال قد سبقه إلى منزله، جلس مع والده، تناول القهوة معه، وزرع في قلبه الأمل الكاذب.
فرح والده أيّما فرح، حتى أنه ذبح شاةً احتفالًا بسفر ابنه للعلاج.
كان النصّاب يعرف كيف يلعب على الوتر الحساس، زار منزلهم ثلاث مرات، تحدث بثقة، وأقنعهم أنه يعمل من أجل “خير علي”، ثم طلب 6000 دينار ليبي كتكلفة لإتمام الإجراءات، وأكد أن كل شيء جاهز وأن الرحلة باتت قريبة.
كيف لا يدفع؟ هذه هي اللحظة التي انتظرها!
“طيارتك من بنينا، جهّز نفسك”.
في يوم الرحلة المنتظرة، جاءه الاتصال الذي سيحطّم كل شيء.
“طيارتك من بنينا إلى طرابلس، جهّز نفسك.”
وقبل ساعتين من السفر تفاجأ علي من أنه أُغلق هاتف النصّاب تمامًا بعد المكالمة مباشرة.
حاول الاتصال به، كرر المحاولة عشرات المرات، لكن جميع أرقامه كانت مغلقة إلى الأبد. لم يكن هناك مجال للوصول إليه، اختفى تمامًا، وكأن الأرض ابتلعته.
بعد بحث طويل، اتضح أن كل المعلومات التي قدمها كانت مزورة، لا اسم حقيقي، لا هوية، لا أي أثر، وكأن النصاب لم يكن سوى شبح مرّ في حياة علي، تاركًا وراءه الخراب.
في تلك اللحظة، أدرك علي أنه وقع ضحية أكبر عملية خداع في حياته.
سرقة المال، وسرقة الأمل.
الصدمة كانت قاسية، ليس لأنه خسر 6000 دينار، بل لأنه خسر الإيمان بوجود الخير في بعض البشر.
كيف لشخص أن يسرق حلم إنسان مريض؟ كيف يمكن أن يكون الاحتيال على معاق جريمة سهلة؟
كيف يمكن أن تُباع الأوهام بهذا الرخص، وتُسلب الأموال بلا رحمة؟
لم يكن علي يعلم كيف سيجمع المال من جديد، لم يكن لديه شيء سوى الحسرة، والغضب، والدموع التي لم يجد من يمسحها.
لم يتبقَ أمام علي سوى الدعاء عليه قائلا خلال اللقاء والدموع تملأ عينيه: “الله لا يسامحه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأسأل الله أن يصرف هذه الأموال على صحته هو.”
نداء إلى الحكومة والمجتمع: “لا تتركوني وحدي”.
اليوم، علي لا يريد الشفقة، لا يريد كلمات المواساة، يريد فقط ما هو حقه، العلاج.
يوجه نداءً إلى الحكومة، إلى الجمعيات الخيرية، إلى كل إنسان يملك القدرة على المساعدة، قائلاً:
“أنا شابٌ في مقتبل العمر، لا أطلب المستحيل، أطلب فقط فرصة للعلاج، لأعيش حياتي بكرامة. لا تتركوني وحدي، لا تجعلوا المحتالين هم من يتحكمون في مصيرنا.”
“ما زلت أنتظر الإنصاف”.
لم تكن قصة علي ناجي مجرد حكاية نصب، بل كانت إثباتًا على أن بعض القلوب قاسية إلى درجة أنها تستغل حتى المرضى. لكنها في ذات الوقت صرخة استغاثة، بأن هناك من يحتاج المساعدة، ويستحقها.
قد يكون النصّاب قد سرق ماله، لكنه لم يسرق منه الأمل بأن هناك من سيساعده، يوماً ما.