رجل البرميل

رجل البرميل

 محمد عبدالرحمن شحاتة

مذُ أن دخلتُ هذا البيتَ، مختبئًا من شيء لا أودُّ الحديثَ عنه، وأنا ألمحُ ذلكَ الرجلَ وهو يجلسُ في برميلٍ خشبيِّ، وحوله ماءٌ ممتلئٌ بمكعّباتِ الثلج.

لم أعبأ لأمرهِ قط، فبيتٌ مهجورٌ كهذا، ربّما يأوي إليه الهاربونَ من أمثالي، لكنّي منذُ يومينِ هنا، وأراهُ لم يغادر ذلكَ البرميل!

يرمقُني دائمًا كلَّما تحرَّكتُ، يبتلعُني بعينيهِ المضيئتين، وبوجههِ الشّاحب، ثم إننا في فصلِ شتاءٍ قارسِ البرودة، كيفَ يتحمَّلُ أن يجلسَ هكذا؟!

خارَت قوايَ من شدَّةِ الجوعِ؛ فراودتني فكرةُ أن أخرجَ؛ كي أشتري طعامًا، ولكنّي خشيتُ أن تكونَ مغامرةً تنتهي بهلاكي، ولم يكن أمامي سوى أن ألجأ إلى ذلكَ الرجل؛ الذي لا يفعلُ شيئًا سوى أنَّهُ ينظرُ إليَّ.

اقتربتُ منه بحذرٍ وقلتُ:

_كيفَ أحصلُ على طعامٍ من مكانٍ قريبٍ وآمن؟

ظلَّ ينظرُ إليَّ في صمتٍ؛ حتّى ظننتُ أنهُ يفتقدُ القدرةَ على الكلام، ثمَّ وجّهتُ له سؤالًا آخر؛ فقلتُ:

_كيفَ تأكلُ؟

لم يَرُد؛ فوجَّهتُ سؤالًا آخر:

_لماذا تلجأ إلى بيتٍ مهجورٍ كهذا؟ من أي شيءٍ تختبئ؟

كان الرجلُ صامتًا صمتَ القبور، فقط ينظرُ إليَّ دونَ أن يجيبني، قرَّرتُ أن أولّيه ظهري، وأفكِّرُ في طريقةٍ أحصلُ بها على طعامٍ دونَ أن ينكشفَ أمري، وما إن ابتعدتُ قليلًا عنه حتّى سمعتُ صوتًا يشبهُ الفحيحَ من خَلفي يقول:

_هل تريدُ أم تعرفَ لماذا أجلسُ هكذا؟

تجمَّدتُ في مكاني، وتجمَّدَ الدمُ في عروقي، استدرتُ إلى الوراءِ بجسدٍ مرتعشٍ بينما أنظرُ إليهِ؛ وقلتُ بلسانِ متلعثمٍ:

_لماذا؟

_كيلا يتحلَّلَ جسدي.

_عذرًا؛ لا أفهمُ ما قلتَ.

_سوفَ أشرحُ لك، منذُ عامٍ تقريبًا، أتيتُ إلى ذلكَ البيت برفقةِ اثنين؛ لنقتسمَ مالًا حصلنا عليهِ بطريقةٍ غير شرعية، ثمَّ اختلفنا، وكان جزاءُ اختلافي معهما، أنَّهما قاما بقتلي طعنًا في رقبتي، ثمَّ أودعا جسدي ذلكَ البرميل، ولاذا بالفرار.

قلتُ ساخرًا من حديثهِ:

_هل تمزحُ معي يا رجلَ البرميل؟!

_بالطبعِ لا، ولكنّها فكرةٌ قاسية إذا تحلَّلَ جسدُكَ وكانَ في مقدورِكَ أن تمنعَ ذلك.

للوهلةِ الأولى، شعرتُ أنَّ الرجلَ يتحدثُ بلهجةٍ جادّة، كنتُ قد نسيتُ جوعي، وقفتُ أنظرُ إليهِ بينما ألمحُ طعنةً في رقبته، استطعتُ أن ألمحَهَا في ضوءِ البيتِ الخافِتِ، لأنَّ عيني قد تأقلمَت على الضوءِ هنا، ثمَّ نظرتُ إلى يدِ الرجلِ؛ وهي تمتدُّ إلى طاولةٍ بجوارِ البرميل؛ لتُمسِكَ بورقةٍ، ويُلقي بها أمامي، وهو يقول:

_هذه إثباتٌ على صحةِ ما أقولُ.

_ما هذه؟

_شهادةُ وفاتي، استطعتُ بقدرةٍ اكتسبتُها بعدَ موتي أن أحصلَ على صورةٍ منها، نعم لم يعثر أحدٌ على جثّتي بعد، ولكن عامًا يكفي؛ كي يفقدوا الأمل في عودتي، بل ويتم إدراجي في سجلاتِ الوفيّات.

انحنيتُ نحوَ الورقةِ؛ أمسكتُ بها بيدٍ مرتعشةٍ، ثمَّ بدأتُ في قراءتِها؛ فإذا بها شهادةُ وفاةِ رجلٍ في الثالثةِ والأربعينَ من عمرهِ، وكانَ سببُ الوفاةِ أنه تم احتسابه في تعدادِ المفقودين.

تراجعتُ للوراءِ، وما إن عاودتُ النظرَ إليه حتى وجدتُ البرميلَ خاليًا من الماء، ولم يكُن فيه سوى هيكلٍ عظمي؛ كما أنّي لم أعثر على شهادة الوفاةِ التي اختفت من يدي!

ارتعدَ جسدي، ولم يكن أمامي سوى أن أغادرَ البيت، لم أفكّر في الخطوةِ التي يجبُ أن أفعلها بعد مغادرتي، كذلك لم أفكر في الذي ينتظرني بالخارج، كل ما كنتُ أفكِّرُ فيه، أن أهربَ من ذلكَ البيت؛ الذي يوجدُ فيه برميلٌ يحوي هيكلًا عظميًّا لقتيلٍ، يبدو أنَّ شبَحَه كان يخيِّلُ إليَّ منذُ دخلتُ البيتَ، أنه يحفظَ جسدَهُ من التحلُّلِ!

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :