رسائل نادية

رسائل نادية

نهى عاصم

أمّي الحبيبة…

أفتقدُك بشدّة يا أمّي، ثمانية أشهرٍ مرّت وكأنّها ثماني سنواتٍ بعيدة عنك، ولكنْ قريبًا أعودُ إلى دفء حضنِك وحضنِ أبنائي، خاصّة حمادة… أفتقدُه بشدّة، وأستيقظُ من نومي كثيرًا أشعرُ به يناديني وأنتِ تعْلمين حبّي لأبنائي جميعًا، ولكنْ لحمادة مكانة خاصّة في قلبي، وكما يقولون “البصّة في وشّه عندي بالدّنيا”.

أستحلفُك بالله يا أمّي، عندما تصلُك رسالتي أنْ تجعلي مَن يقرأها لك يُجيبني فورًا، قلقةُ أنا عليكم وعلى أولادي، فأنتِ تعلمين أنّ والدهم لا يردّ على رسائلي، والاتّصالاتِ هنا مُكلّفة، وعدم وجود هاتفٍ لديكم يجعل الأمرَ صعبًا؛ وكلّما اتّصلتُ بعمّ خليل البقّال ليأتيني بأحدكم، ينقطع الخطّ قبلَ سماعي لصوت أحدِكم… أريدُ الاطمئنان، خاصّة على حمادة؛ فقلبي قلقٌ عليه، رأيتني في منامي أبحثُ عنه، فهل خرجَ وفُقِدَ ثانية ووجدتموه؟

أرسلتُ لأخي رسالةً منذ أسبوعين ولم يردّ هو الآخر، أشعرُ بطول مدّة الغربة يقتلني ويزيد الفجوة بيني وبينكم، وكما يقول المثل (بعيد عن العين بعيد عن القلب).

سلامي لأخواتي البنات، أعلم أنّ مَن تقرأ رسالتي الآن هي إحداهنّ، قولي لها، “أرسلي لأختك ردًّا حالاً لتطمئنّ ويهدأ قلبها، فأنت دونًا عن الجميع تعلمين يا أمّي معنى جملة… “قلب الأمّ واكلها””.

أحضرت لك قطعةَ قماشٍ جميلة، وفصّلتها فستانًا، وسأرسله لك في أقرب فرصة لتحضري به فرحَ ابنة خالي، كنت أتمنّى أنْ أشتري لأخواتي كذلك لكنك تعلمين كلّ ما أحصل عليه من مال يذهبُ إلى سعد زوجي لينفقَ على الأبناء، ويدفعَ مصاريف مدرسة حمادة؛ فاطلبي منهنّ أنْ يسامحنني، وادْعي لي يا أمّي؛ فأنا أقومُ بالتّفصيل لمديرة القصر وللخادمات، وأقبض منهنّ مبالغَ بسيطة، استطيعُ بها تدبيرَ حالي ولو قليلاً، قبّلي لي الأولاد، وقولي لهم… قريبًا سأعود إليهم. ابنتُك نادية

تضع نادية الرسالةَ بالظّرف، وتفكّر هل تكتب إلى زوجها سعد رسالةً جديدة؟

ترفض الفكرة؛ إذْ أنّه يتجاهل-دومًا-الردّ عليها منذُ أتت إلى السّعودية للعمل كخيّاطة لدى أميرةٍ من أميرات العائلة الحاكمة… تنظر نادية إلى الرّسائل وتقوم بعدّها للتّأكد أنّها لم تنسَ رسالةً ما إلى أحدهم، فوقتُ نزولها إلى السّوق لشراءِ لوازم خياطة ملابس الأميرة قد اقترب.

الرّسائل-كنزُ نادية في الغربة-ترسلُها لزوجها والأبناء، لأمّها وأخواتها، وسيداتٍ كانت تعمل لديهنّ خيّاطة باليوميّة في الإسكندرية، وكان بينهنّ-كما يقول المثل (عيش وملح) لم تنْسَه نادية، ولم ينسيْنَه هنّ كذلك، فتبادلنَ الرّسائل منذ سافرت، ودامَ الودّ والمعروف، ولم ينقطع، وكانت الرّسائلُ دومًا سلوى لها في غربتها… تهتمّ نادية بشراءِ الأوراق ذاتِ الألوان الجميلة الهادئة لتسطّر عليها الرّسائل، كما أنّها تهتمّ بشراء مختلفِ كروت المعايدة لترسلَها إليهم في أعياد الميلاد، أو الأعياد، وغيرها.

تتذكّر نادية-بحرقةٍ-يومَ أقنعها زوجُها بالسّفر للعمل بالسّعودية، فهو منذ عادَ من العراق ناجيًا من قصّة قتل المصريّين وعودتهم في النّعوش عام ١٩٨٩[1] وهو لا يعمل، صدمته الأحداثُ كما يدّعي، وأصبح عاطلًا مرّة ثانية، يتعاطى الحشيش، فأقنعها أنّ يوميّات الخياطة في مصر قليلة، ومصروفات الصّبيان كثيرة، خاصّة حمادة المتخلّف!

اشتدّ بكاؤها فهي تكره هذه الكلمة التي ينْعتون بها حبيبَ قلبها الصّغير، وتحزن كثيرًا لكرهِه لابنهم، ولا تدري ما ذنبُه إذْ ولِدَ بعقلٍ قاصر لا يعمل بكفاءة؟ أخذتْ تستغفرُ الله، وتجفّف دمعها، وقامت لتضعَ الرّسائل في حقيبة يدها، وترتدي حجابَها والعباءةَ لتنزل لمحمود سّائق الأميرة الخاصّ.

وجدت نادية الأستاذ هاشم-سكرتير زوج الأميرة-في الطّريق للسّيارة وهو من تتحاشّاه بكلّ الطّرق المُمكنة منذ أتتْ إلى القصر؛ فهو يتحرّش بها بالكلام وبالنّظرات، وأصبحت تخافُه كثيرًا… استوقفها هاشم قائلاً:

– نادية… انتظري… أريدُك في أمرٍ هام… سأسافر لمصرَ غدًا؛ فهل تريدين شيئًا؟

فكّرت نادية لثوانٍ… هل تطلب منه العونَ أم لا؟ ثمّ قالت:

  • هل ستذهبُ إلى الإسكندرية؟

نظرَ إليها بمكرٍ قائلاً:

  • بالطّبع يا ابنة بلدي، هل تريدينَ قليلاً من مياه البحر؟ واللا أجيب لك شرغوشة يا أحلى شرغوشة؟[2]

ردّت نادية وهي تسأل الله السّترَ: أريدُ الاطمئنان على أبنائي، فهل تستطيعُ هذا؟

  • –             انقطعتْ عنّي أخبارهم منذ شهرين، ولا يصلني منهم أيّ رسائل.
  • لكِ هذا يا نادية، وسأعودُ بعد يومين، وأطمئنُكِ، ولي المكافأةُ حينَها.

ردّت نادية وهي نادمةٌ على تسرّعها مع هذا الحقير:

  • يومان؟ لا عليك، فمِن المؤكّد أنّك ستكون مشغولاً، سأقوم بإرسالِ رسائلَ لهم أثناء ذهابي لشراء مستلزمات الأميرة مع محمود السّائق.
  • الموضوع مُنتهٍ كما اتّفقنا فأنا ذاهبٌ لأرى عائلتي وإنْ كنت تريدين إرسالَ بعض الأشياء لهم فأنا على استعدادٍ لإيصالها أيضًا.
  • جميل… لديّ بعض الأشياء كنتُ أنتظر أنْ يسافر أحدُهم إلى مصر لأرسلها معه، سأصعدُ في الحال لجلْبِهم.

 

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :