رصاصة الحياة

رصاصة الحياة

  • فاطمة المهدي بركان / ليبيا

عندما كنت أقول بأني أشعر بالوحده لأني لا أملك أختا، كانت ممرضتي دائما ترد قائلة (( أنِي أختك و حتى نموت دونك )) . بعد قرابة مرور عام كامل من مرور تلك الرصاصة فوق رأسي بينما كنت أتحدث مع ممرضتي ، لتستقر خلفنا على الحائط ، أقل مايقال عن ذلك الشعور (( رعشونا يا حبيبتي )) . لا زلت أحتفظ بها في مكتبي كأنها قطعه فريدة و ذكرى ميلاد جديد لقد توقف الزمن و هي تحاول التملص من الحائط الذي لم يكن يحكم قبضته عليها بشدة، و ماهي أجزاء لا تذكر من الثانية حتى لفظها خارجه متقززا من تعكيرها صفو طلائه المزركش، لم تخجل من نفسها بل شقت طريقها مجددا في اتجاه الأرض لتصيب ممرضتي إصابة طفيفة في أعلى كتفها . يقال إن الرصاصة التي ستنتزع روحك لن تسمع صوتها أبدا…. في خضم تلك الدهشة والفوضى المحيطة بالمكان والزمان كنت قد حاولت التقاطها من الأرض، كانت ساخنة و كأنها خارجة من فوهة بركان لتوها ، و حجمها يقطع كل مجال للشك بأنها قد تكون أي شيء غير كونها طلقة مضادة للطيران . أفلتْتُها من يدي لشدة حرارتها و استعنت بالورقة التي كنت سأستخدمها لكتابة الوصفة الطبية لأحد المريضات، و لففتها لأضعها في حقيبتي و هرعت مسرعة خارج الغرفة خوفا من رصاصة أخرى قد تلحقها. كنت أتساءل طوال طريق العودة للمنزل ما مقدار الشعور بالألم عندما تخترق كتلة معدنية بهذا الحجم صدر شاب مقبل على الحياة؟ تذكرت كمّ الشباب الذين في الجبهات في ذلك الوقت ، و حضر في ذاكرتي مقولة (( فولان فاتح صدره للنار)) فعلا إنها نار ما بعدها نار . لقد فهمت الآن سبب الحالات التي شاهدتها عندما تم إسعافها لقسم العناية المركزة و يطلق عليها Brain out عندما يكون دماغ الإنسان خارج جمجمته الآن فهمت كيف تستطيع تلك العيارات النارية اختراق العظم بكل سهولة. كان ذلك اليوم لا ينسى أبدا يومها أصيبت الممرضة بالهلوسة و كانت تظن بأنها قد فارقت الحياة و كنت أنا أمازحها ممسكة بيديها قائلة :(( انتي توة في الجنة و اني معاك شن تبي أكثر من هكي )) أما أنا فقد أصبت بنوبة ضحك خلال الحادثة استمرت معي لمدة أسبوع ، و كنت أحكي تفاصيل ما حدث بالكامل و لكن بصورة كوميدية لدرجة أني لم أتمكن من إيصال فكرة نجاتي من الموت بأعجوبة لكل من هم حولي. و لم أرَ ذلك القدر من القلق في عيون المستمعين إلا في نظرات أمي لقد كانت الوحيدة التي لم تطلق ضحكاتها و أنا أثرثر حول ما حدث ، كانت الوحيدة التي احتضنتني بقوة ، كنت أشعر بسرعة دقات قلبها الخائف تخترق جسدي أسرع من اختراق الرصاصة للجدار ، أمي كانت قلقة لأني كنت أحدثها عن الموت في الأيام القليلة الماضية.

كانت إصابتي مجرد خدوش على الوجه بسبب تطاير حجر الحائط المقابل ، حتى سِلك التكييف الكهربائي المثبت خارجا لم يسلم، فقد تقطعت أوصاله بالكامل ، أما خدوشي لم تخلف أي ندبات تلاشت في غضون أيام .

وطوال مدة ليست بالقصيرة كان الهواء يصدر صوت صفير و هو يحاول الدخول حاشرا نفسه في ذلك الخرم القابع فوق مفتاح الكهرباء كان من اكثر الأشياء استفزازا ل ذاكرتنا، كان يصر على تذكيرنا بكل ماحدث وكأنه كان شيء قابل للنسيان أساسا. حتى تطوع أحدهم ليخرسه ب كومة من الأسمنت غير الممزوج جيدا ، أما عن خدوشي فهي لم تخلف اى ندبات تلاشت في غضون أيام . اتذكر في بداية يوم الحادثة بأن هناك امرأة مسنة كنت قد نزلت لأكشف عليها في الطابق الأرضي و كعادتي استغللت الفرصة لأطلب منها الدعاء لأني دائما أؤمن بالبركة في دعاء المرضى والعجائز و الاطفال . و أجابتني تلك الحاجه قائلة (( امشي يا بنتي محفوظة بإذن الله)) فقلت لها (( يا عمتي ادعي حتى لممرضتي معايا )) و تبسمت انا والممرضة و صعدنا للدور الثالت و كانت اصوات القذائف واضحه بعض الشي ولكن الحياة شبه طبيعيه كون ان الاشتباكات بعيده عن المنطقة . و قبل ذلك اليوم ب أسبوع كانت احد النساء المسنات أيضا تحدثني بأنها تخاف من الموت و قد استغربت كلامها حيث انى لطالما اعتقدت بأني كلما سيتقدم بي العمر سأزهد في الحياة أكثر ولن أكترث للعيش. و صدفة كنت في نفس الفترة اتبادل الحديث مع جدتي واذا بها تقول لي أنها في ايام شبابها لم تكن تهاب الموت و حتى عندما كانت تستمع للمذياع ناقلا خبر حدوث الغارة الأمريكية على طرابلس سنة 1986 ، و رغم تواجدها وحدها في المنزل ذلك الوقت لم تكن تشعر بالخوف أبدا. ولكن الان و في هذا العمر اختلف الأمر كثيرا لقد اعترفت لي بأنها أصبحت تخاف كل شيء حتى صوت انغلاق الباب بقوة يفزعها . لم يهنأ بالي حتى ذهبت و سألت أمي ، لماذا يخاف كبار السن من الموت ؟ أجابتني بأنه من الطبيعي ان يخافوا من الموت لأن الانسان بطبعه يخاف المجهول . الموت رغم انها ك كلمة تبدو واضحه لكن لايستطيع أحد ان يجزم بتفاصيل حدوثها أنها تجربة لايعود منها أحد ليروي ماحدث . بعد هذه الحادثة والى يومي هذا، لم أعد اتذمر من أي شيء تقريبا ، و أستطيع أن أقول بأني قد وصلت للأجابة التى كنت أبحث عنها طوال الوقت ، رغم اني لا أزال غير قادرة على إيصالها لغيري. ان الرصاصة التى لا تصيبك… ستجعلك تقدر حياتك أكثر . نعم هذه الرصاصة هي من جعلتني ازهد في توافه الأمور و أرغب في العيش في هذه الحياة بشكل يليق بكوني لا أزال على قيد الحياة.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :