رقوج على ركح قرطاج ” حين يتحوّل المسرح إلى  تماهي جماعي في حبّ الوطن “

رقوج على ركح قرطاج ” حين يتحوّل المسرح إلى  تماهي جماعي في حبّ الوطن “

فسانيا خاص : نيفين الهوني : تونس

في ليلة من ليالي الفرح  احتشدت الآلاف على مدارج المسرح الأثري بقرطاج ليشهدوا تجربة مسرحية فريدة وهي تحويل مسلسل “رقوج” إلى عرض حيّ تجاوز حدود الاقتباس الكلاسيكي ليصبح لوحة بصرية وصوتية متكاملة ومتميزة وقد كان ذلك لقاءً بين الشاشة والركح  بين االنستولوجيا والواقع  بين الخيال الفني والجمهور الحاضر والنتيجة لم تكن مجرّد عرض مسرحي، بل كانت تجربة مليئة بكل التفاصيل الإبداعية تجربة  تماهى فيها الجمهور مع الأداء حتى تحوّلا إلى جزء من النص وكلا متكاملا من الأحداث والأجواء

السينوغرافيا جسر بين العوالم

اعتمد المخرج عبد الحميد بوشناق على منظومة ضوئية ديناميكية مكثفة جعلت الركح فضاءً متحوّلاً باستمرار. في لحظة، يتحول المسرح إلى حقل فلاحات دافئ عبر ألوان برتقالية وأضواء هادئة؛ وفي لحظة أخرى يصبح ساحة صراع حامية بوهج أحمر وبريق متقطع يوحي بالعنف والفوضى. وأخرى رومانسي بلون الحب فتحولت من خلفية لونية للأحداث إلى شريكاً درامياً يعمّق المعنى ويجسّد الرمزية.

 السرد المتناغم الذي لا ينقطع

موسيقى العرض وضعت لتكون عموده الفقري. فتحت إشراف حمزة بوشناق، اعطت الأوركسترا التي تكونت من 40 عازفاً للمسرحية بُعداً صوتياً غامراً وبراحا سمعيا يؤثثه ويمنح الذائقة الإكتفاء الذي تحتاجه .ومن الأغاني التي رسخت في ذاكرة الجمهور “أنت الشمس الدافية” و”الناس اللي تعاني” هذي غنايا ليهم  واغنية هل ترى للفنان الراحل  الهادي قلة وأيضا كان للراب نصيب في هذا العرض حيث تأثر الجمهور بأغنية لا تخلي بيا يا وخي وتصاعدت صيحات الفرح حينما أحتضن الأخ أخيه وقد  امتزج الغناء مع الكوريوغرافيا ليشكّلا مشهداً إنسانياً صادقاً. الموسيقى لم تتوقف حتى أثناء الحوارات، فالحوارات نفسها  تحركت على إيقاعها، وكأن الركح صار آلة موسيقية يتدفق من خلالها الصوت والحركة معاً.

لجسد ترجمة أخرى للنص

أكثر من أربعين راقصاً وراقصة شكّلوا لغة جسدية موازية للنص. الحركات تحولت من  زخارف بصرية إلى سرد موازي ففي مشهد الفلاحات مثلاً، تحوّلت “المحرمة”  منديل الرأس – رغم تعدد أصولها وتأكد دخولها عبر الدولة العثمانية  – إلى رمز للأرض والوجع المشترك. ارتبط الرقص بالجسد العامل، بالحركة اليومية للحصاد، بالأنثى التي تحمل المجتمع على كتفيها وفي لحظات أخرى، جسّد الرقص الألم الجمعي عبر حركات منحنية وسقوط متزامن، فصار الركح أشبه بمرآة للوجع الوطني، وأصبح التعبير بالجسد هو صرخة عجزت الروح على احتوائها.

رموز ومعاني ميزت العرض

ما ميّز “رقوج” هو اعتماده على شبكة من الرموز البصرية والفنية: البندقية والحنّة واللون الوردي: معادلة بين الموت والحياة، بين العنف والاحتفاء.

الحضن والاتحاد: رمز للاحتواء الجماعي، لمواجهة الخيانة والطعن من الخلف.

غطاء الرأس : على الرغم من أنها تعدد رمزيتها في دول الجوار وأختلافها والتي كانت هي أيضا تحت حكم الدولة العثمانية بين المراة السيدة والمرأة المدللة والمرأة الكبيرة ذات الخبرة تحولت في العرض إلى هوية محلية وإشارة إلى وجع الفلاحات، أيقونة صبرهنّ وكفاحهنّ.

الألوان: البنفسجي والأزرق في لحظات الحب، الأحمر في الصراع، الأبيض في التكريم.

هذه الرمزية لم تكن متحفية أو جامدة، بل شارك الجمهور في استحضارها وفكّ شفراتها، فصارت لغة مشتركة بين الركح والمدارج.

الصراع الدرامي: بين الخير والشر

العرض أيضا لم يكتفِ بنقل حكاية المسلسل بل جسّد الصراع الأبدي بين الخير والشر في أشكال متعددة:

فمن الخيانة: الأخ الذي يطعن من الخلف إلى الفساد: عودة “الديناري” رغم السقوط، كصورة للشر الذي يجد دائماً منفذاً للعودة إلى العنف المدعوم شعبياً: عبر مشاهد المصارعة جسّدت صراعاً بين قوى متناقضة، الخير والشر، الجماعة والفرد وهذا التعدّد جعل العرض أقرب إلى “أوبرا اجتماعية” تتقاطع فيها السياسة بالخيال، والرمز بالواقع.

أيضا البعد الصوفي: من اللاوعي الجمعي إلى الحب الجماعي فتمازج الموسيقى والرقص وتفاعل الجمهور خلق حالة أقرب إلى الطقس الصوفي. الجمهور لم يكتف بدور المتفرج السلبي حيث شارك في بناء الطقس كاملا صفّق ردد، ضحك وبكي.

في مشاهد الاصطمبالي الصوفي تجسّد هذا العبور من الواقع إلى اللاوعي الجمعي، حيث أصبح المسرح ساحة احتفالية توحد بين حب الوطن والألم المشترك. وكأن العرض يقول: “إذا كان الوجع خبزاً، فالمرأة هي الكسر الذي يحمل الجميع على كتفيه”.

إفريقيا كأم رؤوم ورقوج الوطن الأبن

ومرة أخرى لم ينعزل العرض عن الجغرافيا الرمزية. عبر إشارات بصرية وموسيقية، ربط العرض بين القارة الأم – إفريقيا – والوطن الأصغر تونس. هذا التداخل جعل العرض يتجاوز المحلي إلى بعد كوني، حيث يصبح صراع الخير والشر، الحب والخيانة، قضية إنسانية عامة، لا مجرد سرد تونسي

حين تنصهر الأدوات في بوتقة الإبداع

أما فيما يخص التقنية والسينما على الركح فبوشناق، القادم من عالم السينما، لم يتخلَّ عن أدواته فاستُخدمت شاشات عرض لتكريم وجوه رحلت مثل فتحي الهداوي وكافون، في لحظات لعبت على العاطفة بالصورة والذاكرة هكذا تم استدعاء الماضي إلى الحاضر، واستعمال التقنية لصهر المسافة بين الغياب والحضور في بوتقة الحنين .

الجمهور من متلقٍ إلى شريك فاعل

الجمهور الشريك في كل لحظة وعبر رصد ردود الأفعال في السوشيال ميديا وجدت أن أغلب التعليقات تردد عبارات من النص مثل:”الأحلام ما تموتش، تو نبنيوهم ونبني ألف حلم”.

“نسمية، إنتِ كنز رقوج ورقوج رجعت لأولادها”.

هذه التعليقات لم تكن مجرد صدى بل مشاركة في صناعة المعنى فحتى بعد إسدال الستار، ظل الجمهور واقفاً يصفّق وكأن العرض لم ينتهِ، بل امتدّ في الذاكرة الجماعية

وظل التفاعل الرقمي عدة أيام بعد العرض فالمسرح في زمن الفايسبوك يجعل ردود الأفعال لا تتوقف عند حدود الركح. فعلى فايسبوك والإنستغرام، والتيك توك وصف الجمهور في تعليقاته العرض بـ”الاستثنائي” و”الملحمي”، وانتشرت مقاطع من الأغاني والرقصات، مؤكدة أن التجربة تجاوزت مكانها وزمانها لتصبح حدثاً ثقافياً حيّاً لا يموت على وسائل التواصل.

ليبيا الحاضرة في العرض

استخدم بوشناق جمل موسيقية للفنان الليبي الراحل محمد حسن في التعبير عن أن الظلم حين يعم عدل على لسان البطل وهو يردد عدلي عدلي عدلي وقد أستخدمت هذه الجملة الموسيقية في أغنية يسلم عليك العقل و التي يعشقها الشعب التونسي ويرددها تلقائيا حينما يأتي ذكر ليبيا في حديث ما في لعبة ذهنية لترسيخ كلمة العدل ونسبها للورل في أذهان الناس فعدل الورل يختلف عن العدل كقيمة إنسانية كبرى

ثم تعود ليبيا أو الفن الليبي الذي يعشقه الجمهور التونسي ويستمع إليه في يومه وفي أفراحه كشريك وجداني لما يعيشه الفرد في تونس والذي يرى أنه بمفرداته وموضوعاته وألحانه القريبة من القلب قادر على التعبير عنه وعن ما يعتمل في صدره وما يعترض طريقه في الحياة اليومية

فنجد أن الأغاني التي جاءت على لسان الورل مع النينو والتي تفاعل معها جمهور قرطاج الذي تجاوز ال7000 متفرج كانت في ذات السياق فهي كما جاء على لسانه وهو لسان الإنسان التونسي البسيط  (تعبر علي ) وهي أغنية مضايقين للفنان الليبي  وليد التلاوي وأغنية تاتك يا تاتك للفنان أحمد السوكني والتي عرفت من خلاله على الرغم من أنها للشاعر والفنان أحمد جداد الهوني وأغنية كيف الصقر ديما في العلالي للفنان الليبي أيمن الدرسي بالإضافة إلى الأغاني الشعبية التونسية والتي يتفاعل معها المواطن لكونها عالقة في ذاكرته الغنائية وهي من شكلت وجدانه منذ الصغر

رقوج التصوف في حب الوطن

مسرحية “رقوج” على ركح قرطاج لم تكن مجرد إعادة صياغة لمسلسل ناجح، بل كانت مغامرة مسرحية فريدة نجح فيها الفنان عبد الحميد بوشناق وفريقه في تحويل العرض إلى تجربة صوفية، جمعت بين الفن والجمهور في حبّ الوطن.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :