رمضان 18

رمضان 18

الأمجد بن أحمد إيلاهي

أنهيتُ مشاكلي مع هؤلاء “الناس” منذ قررتُ أنهم ذهبوا..!. بقيت مشاكلي مع ذاكرتي، أقمعها بالكتابة والقراءة والعمل. والآن؛ أدرّس صبية صاروا شبابًا، يعرفونني وأعرفهم منذ  سنوات، وأراقبهم يكبرونَ .

اليوم خرجتُ من باب المدرسة عند انتهاء الاختبار، فوجدتُهم. كانوا ينتظرون أهاليهم ليقلّوهم إلى بيوتهم فيما غادر البقية في الحافلات. لسعني الهجير على وجهي فعدتُ أخبرهم أن الذين هم على طريقي يمكنهم الصعود معي، فأرادوا جرّي من لساني لأطلعهم على درجاتهم في مادتي فضحكت وتذكرت بلادًا يحجب فيها المعلم أعداد تلاميذه من أجل زيادة رغيف خبز على الطاولة فحمدت الله على ظلم البلاد لأمثالي حتى لا تكون بيننا وبينها ما تذلّنا بهِ. قلت حازمًا “هيا، من أراد أن يصعد فليتفضل.. أنا ذاهب” لكنهم مازحوني أكثر محاولين إطالة زمن بقائي معهم رغم حرارة الطقس،حيث قال أحدهم: “نحن كثر ولن تسعنا السيارة”، ” فقلت يسعكم قلبي يا  “” فصاعل”،  فزاد هرجهم وضحكهم وهم يسألون بإلحاح عن معنى” فصاعل” متمنين في دواخلهم أن تكون كلمة سيئة وشوارعية ليضحكوا أكثر، فقلت تعني صغار العقرب فسكتوا قليلا متفاجئين، وغادرتُ مبتسما حتى لحق بي ثلاثة منهم ، ركبوا معي لأوصلهم. وحين هممت بالمغادرة استوقفني آخر ففتحت النافذة فقال لي ضاحكا :”استاذ والله انك عسل، بس لو تبطل تعصب علينا شوي” فقلت له “في مصلحتك عزيزي.. غدا تفهم ذلك ” حينها نظر الي بامتنان وقال “أعرف، روح الله يحفظك”. كانت كلماته ودعواته الممزوجة بالفرح الصادق والودّ كفيلة بتحريك سحبٍ ناحية البصر لكني قمعتُ الذاكرة.. منذ رحل أبي عن الدنيا، لم أسمع دعوة بهذا الصدق أبدا.. !

أوصلت العيال مبتسما، وأكملت طريقي لشراء لوازم الطبخ.. .

على الفترينة وجدت” الفِطر “، هكذا توقفت أمامهُ مذهولا!! إذ منذ ثلاثين عاما لم أرَهُ مطلقًا.. يا للعار و الشوق الدفين.. اقتنيت بعضه مع بقية مشترياتي وغادرت إلى البيت على فرح من وجد عزيزًا عليه . أجريتُ حوارا مع صديقة لقلبي من بلادي البعيدة أسألها عن كيفية طبخ “الفقّاع” ولأنها ضحكت طويلا على التسمية الغريبة بالنسبة لها فإني واصلت نطق الكلمة باستمرار وكانت في كل مرة تخرج من فمي بحلاوة مختلفة. حدثتها عن ذلك اليوم الذي كنت فيه صغيرا، مدللاً عند أخواتي البنات، حيث كانت الواحدة منهن تخرج لجمع “الفقاع” لأجلي وطبخهِ في الماء والملح لآكله مع الخبز حين لا يعجبني الغداء. ذلك اليوم الذي ركضت فيه باتجاه أبي الشيخ ممسكا يده التي تحمل أغراضا كثيرة محاولا مساعدته وكنت أثقل عليه في الحقيقة، وكان يبتسم لي وكنت أروي له قصة أختي التي طبخت لي “الفقاع” . وحين اقتربَت منا قال لها أبي بصوته القوي “ربي يحنّنْكُم على بعضكم” فابتسمت أخيتي ولم أفهم أنا شيئا..

في ذلك العام كان الفقاع قليل الوجود ، وكانت أختي تجمعه لأجلي ولأجل دعوات أبي لها. وفي هذا العام ها أنا أشتري الفطر من فترينة وأسأل كيف يطبخ!!  قليته في الزبدة وأضفت له قطع الدجاج والجبن والقشطة وجلست. تذوقتهُ فوجدت أنه” فطر”، فطر متمدن  والحال أن الذي أردت شراءه هو “الفقّاع”؛ ذاك الذي يطبخ في الماء والملح و تجمعهُ أختي رغم الحرارة العالية، تجمعه بحبّ و لطف و مودّة. تناولت الفطر وجلست أفكر في الطالب الذي قال لي “الله يحفظك” وتذكرت أبي فهدّ قلبي الشوق على فراقه الأبدي، أبي الذي داوم على قول ذات الدعاء لي “ربي يحفظك” حتى غاب. اتصلت بأمي أسألها؛ هل نزل المطر، وحين أجابت بلا قاطعة، والحال أنها تمطر على إسفلت المدن الكئيبة منذ أيام بلا فائدة ، عرفت أن الفقّاع لن يطلع في أرضنا هذا العام، وأني سأواصل شراء الفطر فقط لا غير، مادمتُ لا أستطيع شراء طفولتي مجددا ولا أستطيع استجلاب المطر..

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :