بقلم :: محمد جمعة البلعزي :: كاتب ليبي مقيم بمدريد
” إذا أنت لا تقرأ الصحف، فإنكتخلو من المعلومات، وإذا قرأتها فإن معلوماتكستكون مُضلَّلَة”
الممثل الأمريكي الأسود واشنطندينزل
وددت بمقالتي هذه التواصل مع طبقة الشباب الليبيين المقدمين على العمل في قطاعات السياسة والاعلام والتحليل والتشخيص للواقع والأوضاع والظروف التي تمر وستمر بها البلاد والعالم، لأنقل إليهم بعضاً من تجربتي في العمل الصحفي، انطلاقاً مما درسناه بالجامعة، والممارسة اليومية ومتابعة ما ينشر أو يصدر من تصريحات وأقوال، تعني ما لا تقول وتقول ما لا تعني.
وسأتخذ من موضوع التضليل أو التعتيم الإعلامي في العالم سبيلاً لذلك، وسأركز على حالة روسيا كمثال، وليس معنى ما سأتناوله هنا تهجماً على روسيا ولا تهليلاً للغرب،فأنا منذ زمن بعيد ابتعدتعن أي تيار سياسي مهما كانت صبغته، بعد أن فقدت الأمل إثر اختفاء من كان ينادي بوطن عربي واحد من المحيط إلى الخليج ورمي العدو في البحر،ثم اكتويت من نظام الشعارات والزيف والمخادعة والمواربة لتبرير ما لا يمكن تبريره، واكتفيت بما اعتز به دوماً كوني صحفياً،دراسة وخبرة، ومتابعاً للشأن الدولي وتاريخه الحديث.
لا آتي بجديد إذا قلت إنالتعتيم أو التضليل الصحفي أو الإعلامي، كان دوماً أداة طيعةفي يد القوى المهيمنة والحكومات والأحزاب والمؤسسات الكبرى والأفراد أصحاب الملايين، يرى ما تراه عين مالكه أو تسمعه أذن مموله، وبالتالي يُعد من شبه المستحيل أن تجد في شتى دول العالم وسيلة إعلامية واحدة تعمل بصورة ذاتية، بل إن الوسائل التي حاولت السير مستقلة بمفردها وجدت نفسها تسلك طريقاًشائكاًووعراً، ولم تتمكن من مواصلة سيرهامما أجبرها مكرهة على التوقف والاختفاء أو البحث عن ممول تستند إليه ويجعل طريقها أكثر أمناً لضمان ديمومتها.
ما دفعني للحديث عن هذا الأمر، هو إن ما تدعيه البلدان الغربية بان دساتيرها ترتكز أساساً على ترسيخ حرية الصحافة وتلقّي المعلومات وحرية التعبير، كحقوق من الحقوق الأساسية للمواطن الغربي، لدرجة أن حكومات تلك البلدان تعتذر عن التدخل لردع وسيلة إعلامية ما في حالة تطاول هذه الأخيرة وتجاوزها حدود المنطق أو الدبلوماسية، بحكم أنها-أي الوسيلة-حرة في التعبير انطلاقاً من باب حرية الصحافة. لكن الغالبية الساحقة تعلم إن الوسائل الإعلامية الغربية لا يقوم لها مقام إلا إذا خضعت لأهواء ومزاجات وسياسات الجهة الممولة لها، عامة أو خاصة، وبالتالي فلا حرية لها. وصدق عميل المخابرات السوفياتية السابق ورئيس جهازها ليوم واحد، ليونيد شيبارشين، حين قال “الفقير يشتري الصحيفة، أما الغني فيشتري رئيس تحريرها”
هذا في الغرب، أما في روسيا فإن ما ورد بنص المذهبالروسي الجديد للأمن الإعلامي، الذي صودق عليه أواخر السنة الماضية، يكشف من جانبه عن سيطرة الدولة على وسائل الإعلام، واقتبس منه الآتي:”لقد تمت ملاحظة زيادة المطبوعات الأجنبية التي تحوي تقييمات خاطئة لسياسة دولة الاتحاد الروسي،مع وجود تمييز صارخ ضد الوسائل الإعلامية الروسية في الخارج، وخاصة بين طبقة الشباب،في محاولة لطمس القيم الروحية والأخلاقية التقليدية لروسيا، مع زيادة نشاط المنظمات التي تتجسس بواسطة وسائط تقنية على أجهزة الدولة الروسية والمراكز العلمية ومؤسسات التصنيع الحربي، وإن الرئيس بوتين يسعى جاهداً لتحقيق استقلالية أكبر للدولة في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية، إذ أن وضع الأمن المعلوماتي في قطاع الاقتصاد يتسم بالتنمية غير المتكافئة لتكنولوجيا المعلومات التنافسية واستخداماتها في إنتاج وتقديم الخدمات”. من هنا نرى أن المذهب يشدد على ضرورة التصدي [بمعنى الاعتداء]لكل ما هو غربي، مما يوحي بظهور حرب إعلامية لا زالت في مهدها، وربما تعدت ما سبق وأن عرفناه وعاصرناه وسميت بالحرب الباردة التي امتدت لعقود طويلة ووضعت العالم على شفا هاوية لا قرار لها،كنا ندرك بدايتها ونجهل نهايتها، فأسباب الحل والربط كانت بأيدي لاعبيها الذين لم يكن يهمهم البتة وضع البشرية بين قرني ثور إسباني هائج.
نص المذهب الروسي تزامن وظهور تيار في الغرب يتهم روسيا بزعزعة الديمقراطيات الغربية ضمن حملة تضليل قوية وشاملة، تستخدم فيهاالوسائل الإعلامية المتنوعة، وما الهجمة التي تتعرض لها روسيا حالياً من طرف الولايات المتحدة بشكل رئيسي، والبلدان الأوروبية نوعاً ما، إلا دليل على ذلك، مما يفسر أن الأمر يخضع لما أصبح يعرف بـ “الحرب المهجّنة”، ولو أن الحالة يمكن تشخيصها في إطار حرب “التضليل” الإعلامية التي تستخدم فيها أساليب غير تقليدية وغير مباشرة، وربما غير سهلة من حيث تتبع أثرها. وهو ما ينطبق عليه قول عضو مجلس الشيوخ الأمريكي هيرامجونس في بدايات القرن الماضي بأن“الحقيقة هي أولى ضحايا الحرب”.
فالرئيس الروسي، بوتين، سخّر كل ما في متناول يده من قدرات للتوغل والسيطرة على الراي العام الغربي وزرع الشكوك حول مدى قدرة النظام السياسي والاجتماعي الغربي على الاستقرار. وتشير أغلب الأبحاث والتحقيقات الغربية إلى أن كافة أصابع التأثير على أذهان الشباب الغربي للتصدي لحكوماته تشير إلى روسيا، من هناك نجد الحركات الاحتجاجية والمطالب الشبابية التي عمت أرجاء أوروبا خلال الأعوام الستة الأخيرة، إلى درجة أن الكثير منا اعتقد أن ” الربيع الأوروبي” قد اجتاز أعتاب القارة العجوز، بعد أن تفجر في عالم العرب. منها حركة “15 مايو” الإسبانية، التي تحولت فيما بعد إلى حزب سياسي له نواب في البرلمانين الأوروبي والإسباني. وحركة ” غاضبون” التي عمت شوارع اليونان ومدن أمريكا اللاتينية. وهي حركات قام صلبها على أنصار الشيوعية القديمة والحركات اليسارية، من معتدلة ومتطرفة، والمناهضين الجدد لكل ما هو رأسمالي أو مرتبط بالنظام الغربي. وللتزامن مع ظهور حركة النيوكون(أو المحافظين الجدد) الرأسمالية. وقد لقيت تلك الحركات تأييداً ودعماً من روسيا والدول الدائرة في فلكها التي تسمى نفسها بالتقدمية أو التي تقف في وجه الولايات المتحدة، الند للند، كفنزويلا وإيران.
وقد بلغت حدة الهجمة الإعلامية المضللة إلى درجة أن عملية اغتصاب فتاة تنحدر من أصل روسي في ألمانيا، تحولت إلى مواجهة ثنائية جدلية، بعد أن تجرأ وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، على اتهام ألمانيا، دون بحث أو تقصي للحقائق، بملاحقة واضطهاد الشباب الروسي في أراضيها، رغم أن تحقيقات الشرطة الألمانية كشفت أن العملية تمت على يد لاجئ سوري، وبشهادة لاجئين آخرين.
وحيثما كَمِنَت الحقيقة، نجد العالم وقد اقبل على حرب إعلامية أساسها التضليل والتعتيم أكثر من المعتاد، تتزعمها حركة شبابية قائمة على مفهوم ” التحريض والدعاية (بروباغاندا)”، وهي حركة استُخدِمت في أحقاب عدة سواء في روسيا، إبان الثورة البولشيفية، أو في الغرب، خلال فترة الحرب الباردة التي امتدت من خمسينات القرن الماضي إلى نهاية ثمانيناته. ففي روسيا مثلا ضمت تلك الحركة الكثير من الفنانين الثوريين الذين سعواإلى تحكيم ضمير المجتمع حول ضرورة الكفاح من أجل القضية البولشيفية، ثم تجددت الحركة إبان الفترة السوفياتية، في إطار ما عرف بحملة حماية الثورة، وهي حمى انتقلت بالتقليد إلى بلداننا العربية، إلا أن انظمتنا كانت أقسى وأعتى من نظام القيصر الروسي، فقضت على كل الحركات الشعبية التي ناوأتها.
وفي سنة 2014 صادق الرئيس الروسي بوتين على ميثاق العمل العسكري، وهي وثيقة تركزتفيتحديد التحديات الرئيسية التي تواجه دول الاتحاد، كزيادة قدرات حلف الأطلسي، وماهية المهام الدولية الممكن القيام بهاحتى وإن استدعى ذلك انتهاك القانون الدولي، والتوغل ثم الاقتراب من البنية التحتية العسكرية في البلدان الأعضاء بحلف الأطلسي المجاورة لروسيا عن طريق انتهاج استراتيجية توسيع نطاق العمل، بما مؤداه أن روسيا ” تحتفظ بحق استعمال الأسلحة النووية واسلحة الدمار الشامل للرد على أي اعتداء أو هجوم بذلك النوع من الأسلحة ضد روسيا أو حلفائها”. تلك الوثيقة لا زالت سارية إلى لحظتنا هذه.
وراء تلك الأحداث، ذات الأهمية القصوى، يمكننا إدراك مدى حالة التوتر القائمة بين الولايات المتحدة وروسيا، ولا أقول بين الغرب وروسيا، لإن غالبية دول أوروبا التي تشكل طرفاً بذلك الغرب، تقف حائرة في منعطف صعب للغاية، فمن جهة لا ترغب في ظهور حرب باردة ثانية بعد أن عاشت بين فكي كماشة الشرق والغرب لأربعة عقود، ولا تؤيد على الاطلاق لهجة الوعيد التي تتبعها الإدارة الأمريكية في سياستها الخارجية، وخاصة منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، في الوقت الذي تنحى فيه باللائمة على الرئيس الروسي في مواجهته الاعلامية مع أمريكا.
يجدر الذكر، إن روسيا بحربها الإعلامية هذه تحاول توجيه رسالتين، إحداهما للداخل والأخرى للخارج، فمن جهة تسعى للإبقاء على جذوة التأييد الشعبي غير المشروط لما يقوم به الرئيس بوتين، واعتراض أية حركة تستهدف مصالح الحكومة الروسية، لوجود طوابير خامسة يساندها الغرب رهن الإشارة داخل روسيا. ومن ناحية ثانية، رفض الكرملين الروسي إحياء الذكرى المئوية الأولى لانطلاقة الثورة الروسية التي تصادف هذه السنة، 2017،مخافة أن يعيد التاريخ نفسه ويشتعل فتيل التمرد الشعبي.ومن ناحية ثالثة، الإيحاء إلى غريمها الأول أمريكا بأن روسيا لا زالت كما كانت، قوة عالمية عظمى لا يستهان بها.
روسيا لا تبحث في كيفية القضاء على الدول والمنظمات التي تحيط بها، وإنما التأثير إعلاميا في رأيها العام وكسبه بغية إثارة القلاقل والتضليل فيها، والتشكيك في قيمها الاجتماعية ورسوخ ديمقراطيتها. وقد استخدمت روسيا الوسائل الإعلامية ايما استخدام، واستحداثها لقناة “روسيا اليوم” التلفزيونية (2007)ووكالة سبوتنيك للأنباء (2014)، وراديو سبوتنيك، الذي يبث بثلاثين لغةفي العالم، وصحيفة “روسيا خلف العناوين”، وجميعها تتلقى تمويلاً من الخزينة العامة للدولة، لبث الدعاية الروسية المناوئة للغرب، في الوقت الذي يواجهها الغرب فيه بمئات الوسائل، من قنوات تلفزيونية وصحف ورقية ومواقع، محلية وأجنبية.
العالم مقبل على حرب جديدة من الأكاذيب الإعلامية الممزوجة بالحقائق للتمويه، ويعود السبب الرئيس لميلاد هذه الحرب، إلى حقبة تسعينات القرن الماضي، عندما تولى المراسلون الغربيون إرسال تقارير مضللة عن حرب الشيشان، مبرزة أن روسيا قامت بدور فظيع في تلك الحرب. حينها تعلم الروس الدرس وسدوا الطريق في وجه المراسلين الخاصين خلال حرب الشيشان الثانية والاعتداء على المصادر الاعلامية الشيشانية التي كانت تقدم أخبار الأزمة حسب وجهات نظرها، أي وجهات النظر التي تتمشى والسياسة الغربية.
أما من ناحية الموضوعية، فهي أمر ينطلق من معطية أن لكل حدث قراءتين، إذ تتولى تلك الوسائل إعطاء وجهة نظر بديلة، تلك التي لا تقع بين مخالب المتآمرين الكبار في العالم (كالولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي وحلف الأطلسي…)، ومن هم على شاكلة جورج سوروس و”مؤسسة المجتمع المفتوح” التي يرأسها…إلخ، وتقوم بنشر أحداث مليئة بالأخبار الممزوجة، موثوقة وعدم موثوقة، وفي ذلك تشترك صحف غربية، كصحيفتي دير شبيغل الألمانية ونيويورك تايمز الأمريكية، اللتان شنتا حرباً إعلامية بدأت من الزعم بقرب انضمام السويد إلى حلف الأطلسي إلى اغتصاب فتاة سويدية في ألمانيا على أيدي شباب روس. والهدف منها إثارة القلق في القيادة الروسية، فالكل يدرك أنه في حالة انضمام السويد لحلف الأطلسي، معنى ذلك أنها ستتحول إلى مخزن للأسلحة النووية التي ربما استخدمت ضد روسيا، بما يعني مهاجمة هذه الأخيرة حتى بدون موافقة الحكومة السويدية.
الحرب الإعلامية الباردة بدأت بالفعل، وعمليات التسلل في أروقة قصور الرئاسة جارية على قدم وساق، فروسيا التي تأتي في المرتبة الثانية كقوة عظمى بعد الولايات المتحدة، تمكنت من التفوق على هذه الأخيرة، بعد أن تسللت إلى البيت الأبيض وأوصلت دونالد ترامب إلى الرئاسة، وأجبرت حكومة هولندا على حصر الأصوات يدوياً في انتخابات 15 مارس الماضي، بدلاً من استخدام القدرات التكنولوجية التي تملكها، خوفاً من تسلل روسيا في عملية الحصر، وخاصة بعد أن أصر مرشح اليمين المتطرف في تلك الانتخابات، جيرت ويلدرز، على إخراج هولندا من عضوية الاتحاد الأوروبي حال فوزه، وساد اعتقاد كبير بأن روسيا كانت وراء ذلك، ثم اكتشاف أن ويلدرز حصل فعلاً على دعم خفي من روسيا. ناهيك عن أن حزب الجبهة الوطنية الفرنسي، الذي تتزعمه مارين لوبين، تلقى دعماً في الماضي القريب من الكرملين.
وفي سنة 2001 أسست الإدارة الأمريكية مكتباً أسمته ” مكتب التأثير الاستراتيجي”، هدفه الرئيسي التأثير على مستوى العالم لخلق تصور جماعي مؤيد للسياسة الخارجية للولايات المتحدة وحروبها الإجرامية (متبعة في ذلك ما سمي بمشروع المئوية الأمريكية)، قائم على نشر وتوزيع وتعميم جميع أنواع الأكاذيب وصنع الأدلة والمعلومات الملفقة وشراء ذمم الصحفيين ووسائل الإعلام والموظفين لتنفيذ ذلك الهدف. وفي 2002 ادعت وسائل إعلام أمريكية بأن الرئيس بوش الابن قرر إغلاق المكتب، وهو ما لم يصدقه أحد، لا لشيء سوى لأن عهده كان أكثر دموية وإجراماً، وكان لزوماً الإبقاء على ذاك المكتب. ربما اختفى الاسم أو أطلقت عليه أسماء أخرى، لكن المهمة لم تختف.
الفكرة التي رغِبتُ في تعميمها تقوم على الا نصدّق كل ما يقال، خصوصاً نحن العرب الذين تتحكم فينا العاطفة أكثر من العقل، فكل ما يصدر عن السياسيين أو الخبراء وبقية الفعاليات المنضوية تحت مظلة السلطة في أي بلد، أو تنتمي لجهة ما، تقوم بنشر رسائل سطحية المعنى لا تحتاج لمعرفة واسعة مسبقة حول ما تصرح به او ما تتناوله من مواضيع، لكنها تبطن معانٍ أخرى تبعث علىالبلبلة واستمالة المتلقي. رحم الله أحمد سعيد ومحمد عروق اللذان سمع صوتهما كل العرب من إذاعة صوت العرب في ستينات القرن الماضي، وصدقهما الجميع رغم الأكاذيب التي كانا يسوقانهاوكان لها وقع الحقائق، واستطاعا استمالة الرأي العام العربي لسياسة مصر رغم النكسة التي لحقت بالعرب. وأمام ما يشهده العالم أجمع وعالمنا العربي اليوم، هل سيعيد التاريخ نفسه؟.