تقرير :: زهرة موسى محمد
حكاية عائشة ليست نوعاً من قصص النوم الخيالية التي ترويها الأمهات لتخيف الصغار بغيلان وهمية ، إن حكاية عائشة حكاية واقعية حدثت لأم في وضح النهار ، ترويها بألم فيرتجف الكبار خوفاً من الوحوش الآدمية التي تنهش إنسانية الآخر بلا رحمة .
ها أنا التقي عائشة لتروي حكايتها لي ولكم ، قائلة بحزن :
” اسمي عائشة امرأة أربعينية متزوجة وعندي خمسة أطفال ، أنا مغتربة جئت قبل عدة سنوات من النيجر إلى ليبيا ، وبقيت في مدينة سبها برهة من الزمن ، حتى سمعنا أنا وزوجي عن وجود فرص عمل بمدينة زوارة، فقررنا الذهاب إلى هناك .
وبالفعل ذهبنا إلى زوارة وأسسنا حياتنا هناك وعشنا حياة جيدة ، لم يكن لدي معارف كثر في زوارة ماعدا ابنة عمي التي كانت بمقام أخت لي .
و سعياً وراء الرزق سافر زوجي منذ سنة إلى منجم الذهب حيث ذهب جميع أقاربه ، لعله يجنى من الذهب ما يغير حياتنا إلى الأفضل ، وبقيت أنا و أبنائي هنا في زوارة ، كنت دائما أتردد على ابنة عمي للإطمنأن عليها ؛ فهي تنتظر مولدها الأول وكانت جارتها سيدة عجوز في مطلع الخمسين ، امرأة متنمرة تبحث دائما عن المشاكل و غالباً ما تتشاجر مع الجميع ، وكم تعرضت لابنة عمي بالأذى وهي صغيرة أي بمثابة ابنة أو حفيدة لها في السن .
تكررت مضايقات الجارة لابنة عمي ، وعند لجؤنا لزوجها عله يحل المشكلة و يحد من أذاها رفض التدخل ، وطلب مني أن أتحدث لها و هذا ما حدث ؛ فقد ذهبت لأتكلم معها فكانت سليطة اللسان ولا يمكن التفهم معها فهددتها بأنها ستواجهني اذا تعرضت مرة أخرى لابنة عمي الصغيرة .
عدت للمنزل وبعد عدة أيام اتصل بي زوج ابنة عمي و أخبرني بأن الجارة العجوز أبرحتها زوجته ضربا وانها مريضة جدا ، فذهبت لتلك السيدة وتشاجرت معها في حمأة الواقعة ، وكنت أحمل سكينة هددتها بها .
اقتحام بيتي وابتزازي بأطفالي
تابعت عائشة : قمنا فوراً بإسعاف ابنة عمي إلى المشفى، لقد كانت حالتها حرجة ، فطلب منا تحويلها إلى أحد مستشفيات طرابلس لتتلقى العناية الطبية اللازمة ، وبالفعل قمت مع زوجها بالذهاب على الفور إلى طرابلس و تلقت العلاج هناك ، وبقينا لمدة يومين تحسن خلالهما وضع ابنة عمي قليلا ً.
في تلك اللحظة اتصلت بي إحدى جاراتي من زوارة فزعة وهي وتقول : بأن هناك عصابة اقتحمت منزلي و سيطرت على أطفالي بالداخل ، و أفراد العصابة يهددون وويتوعدون بأنهم لن يبرحوا المنزل حتى آتي أنا شخصياً إليهم .
خفت كثيرا ، قأنا هنا في طرابلس وزوجي مسافر وأطفالي هناك وحيدين في منزلي بزوارة لاحول لهم و لاقوة ..
تناهشت نفسي الأسئلة المرعبة : ماذا سأفعل؟ ومن هؤلاء؟ ماذا يريدون مني ياترى ؟ …
و حالاً قررت السفر إلى زوارة ،من أجل حماية أطفالي ومواجهة ماينتظرني . وماهي إلا ساعات حتى وصلت لباب منزلي فوجدت رجال العصابة الغرباء داخل بيتي!
عندما رأيتهم سألت بوجل :ماذا تريدون مني ؟ -لم تكن لغتي العربية جيدة وكنت خائفة جدا – ارتمى أطفالي في حضني ، وكانوا مرعوبين، وبلا رحمة تم سحبي من بينهم إلى مبنى للشرطة
” كما اعتقدت حينها”. وما إن دخلنا المبنى حتى بدؤا يحققون معي وقالوا بأن تهمتي تهديد امرأة مسنة بالسلاح ” السكين ” ؛ فرويت لهم القصة كاملة وشهدت جارتي على الكلام ، وبناءاً على ذلك تم جلب تلك العجوز أيضا للتحقيق .
من هنا بدأت قصة أخرى ، فبعد كل تلك التحقيقات أخدنا رجال العصابة في باص وعصبوا أعيننا مع عدد من النساء، لا أعلم كم كنا حينها ، وكنا نسترق السمع لهم فسمعتهم يهمسون لبعضهم البعض المكان بعد صبراتة .
واستمرت تحكي : ” شعرت بأننا مررنا بغابة أو مزرعة أو طريق تكثر فيه الأشجار ،فلقد سمعت صوت خشخشة الأغصان تلامس نوافذ الباص وأخير وصلنا لذاك المكان الجهنمي الذي قاسيت فيه الويلات ولم أعتقد بأني سأخرج منه حية !
الطريق إلى سجن الجحيم
تابعت ” أنزلونا من الباص و فتحوا أعيننا ، وإذ به مبنى ضخم و قديم ذو طابقين، وكانوا يرتبونا ويدفعونا بأسلحتهم للأمام حتى فتحت الأبواب ودخلنا .
عند دخولي رأيت عدد مهول من النساء والأطفال ، ما يقارب حوالي 2000 امرأة محبوسة في ذاك المكان! نساء و أطفال من مختلف الجنسيات و الأديان ، ذهلت لذاك المنظر ولم أقوى على الكلام . بدأت أدير نظرتي فأرى أثار التعذيب و الجوع والتعب والمرض على هذه الوجوه المسجونة ، اقشعر جسدي من ذاك المنظر المخيف و تثاقلت الخطوات ، ولكن بلا هوادة ظل رجال العصابة يدفعوننا لندخل جميعا و نصير قطعة من العذاب ، كانت أثار الصدمة واضحة على وجوه الحاضرين حديثاً ، و كأنما أصابنا البكم فلم نستطع أن نسألهم ما هذا المكان ؟ ولماذا نحن هنا ؟ ومن هؤلاء ؟
جثة امرأة بين الأخمص و البحر
أعربت ” منذ هذه اللحظات بدأت المعاناة الحقيقية ،فواحدة من النساء اللاتي جلبت معنا كانت قد جاءت هنا من قبل حين تم القبض عليها سابقاً ، كانت امرأة من غانا أو مالي تقريبا وتم تفتيشها و أخذو ما تحمل من أموال ، والغريب بأنها كانت تخبيء المال تحت حجابها ،وكل نقودها بالعملة الصعبة ” الدولار ” ، فربما كانت تخطط للهجرة إلى أحد الدول أوروبية أو ما شابه . أتذكر تماماً تلك المسكينة حين وجدوا معها هاتفا فأخذوه منها وضربوها به على رأسها حتى تكسر وسال الدم من جبينها !
ولم هذا الحادث يعني شيئاً بالنسبة لما شهدته حين رأيتهم يقتلون امرأة أمام عيني لأول مرة في حياتي! صعقت من المنظر وأصابني الذعر، كانوا أشخاصاً بلا رحمة ذوي قلوب ميتة :
لا أنسى ما فعلوه بسيدة أربعينية ذات طفلين عندما وجدوها تخبيء هاتفا ، لقد أبرحوها ضربا أمام طفليها حتى أغمى عليها ، كنا نعتقد بأنها قد ماتت من شدة الضرب ، كان ذلك الوحش يركلها بلا رحمة وطفلاها يسقطان عليها وهما يصرخان “ماما ، ماما ” ، استشرس المتوحش وركل الطفلين بعيدا دون شفقة عليهما ، ونحن الشاهدون على البشاعة شللنا في أماكننا من شدة الخوف وهول الصدمة.
حين توقفت المرأة عن الحركة تركها وذهب دون أن يلتفت إليها، تركها هامدة على الأرض وحذرنا من الاقتراب منها ومن يقترب سيلقى ذات المصير!
بقيت المرأة ملقاة على الأرض من الصباح حتى التاسعة مساءا ، وعندها جاء ذات الوحش ورفسها بقدمه ليتأكد من أنها لازالت تتنفس وهي غارقة في بحر دمائها .. وبلا شفقة قتلها ،ضربها بأخمص البندقية على رأسها فصارت جثة .
واسترسلت حديثها ” إيغالاًً في تعذيبنا ومغالاةً في وحشيتهم لم يحملوا جثتها فورا” بل تركوها هنا على مرمى بصر أطفالها يومين متتاليين ، وبعدها حلموا الجثة ورموها في البحر ، لقد كان البحر قريبا جدا من السجن ، فنحن نغسل بماء البحر وجوهنا ونستعمله .
الخروج من العذاب و ولادتي من جديد
طوال فترة احتجازنا كنت أتسأل من هؤلاء وما مهنتهم ؟! عبثاً أتساءل فلم أكن أستطيع أن أعرف من هم .
كانت هناك طريقة واحدة فقط للخروج من ذاك السجن القسري : وهي أن يدفع أهلك وذويك المال مقابل خروجك ، كنت مذعورة ولهول ما رأيت نسيت أرقام هواتف جارتي ، وابنة عمي .. ولكن لحسن حظي أن إحدى السيدات كبيرة في السن كانت تحمل هاتفا وتخشى أن يكتشف عندها ، ولهذا كانت تراقب أفراد العصابة ولاحظت أن أحدهم كان أقل عصبية وقسوة من الآخرين ، فنادته وأسرت له بأنها تحمل هاتفا ولكنها لم تستخدمه وطلبت منه أن يتصل بابنتها لكي تحضر لها المال وتخرجها من هذا المكان ، فوافق على الفور لأنه سيأخذ نصيبه من المال . عندها أوصيت تلك السيدة العجوز بأن تذهب في حال خروجها لجارتي وتخبرها ما حدث معي ، لعلها تخبر زوجي فيخرجني من هذا السجن .
وبالفعل اتصل ذاك الرجل بابنتها ،وطلب منها أن تجمع المال لتخرج أمها ، وجمعت الابنة ثلاثة آلاف دينار ليبي واعطته لسائق تاكسي يعمل مع هذه العصابة ، وأخذ السائق المال و أحضره للعصابة و أخذ بدوره العجوز معه لتخرج بذلك من سجن العذاب.
لقد كان المبلغ المحدد للخروج من السجن يختلف من شخص لآخر حسب الديانة : كنا نحن المسلمات15 خمسة عشر امرأة فقط ، ولم يكونوا يمارسون علينا نفس الظلم والتعذيب الذي يمارسونه على من يعتنقون ديانات أخرى !
ومن التمييز الذي يمارسه أفراد العصابة توارد لذهني أنهم قد ينتمون لإحدى الجماعات الإرهابية . بل أن قيمة المال كانت تختلف حسب الوضع الإجتماعي أيضاً ، فقد اتصل أفراد العصابة بزوج تلك المرأة التي قتلوها أمامنا ليدفع المال و قد دفع 10,000 د.ل ليأخذ طفليه !
بقيت هناك 3 أشهر في ذاك المعتقل المخيف حتى جمع زوجي المال و أرسله إلى سبها وقامت إحدى قريباتي بأخذ المبلغ وهو2,500 دينار ليبي و جاءت إلى زوارة وكانت قد خرجت العجوز التي تشاجرت معها قبلي وعن طريقها استطاعوا أن يتصلوا بأفراد العصابة ، وأطلقوا سراحي أخير فعدت للحياة ، في تلك اللحظات شعرت وكأني ولدت من جديد فلم أتخيل بأنني سأخرج من ذاك المكان و أنا على قيد الحياة لأرى أطفالي من جديد .
الرحيل للفقر ولا ثروات الخوف
عندما عدت إلى منزلي وجدته خالي ، وأخبرتني جارتي بأنه قبل خروجي بأيام جاء أفراد العصابة على مرأى ومسمع الجميع واقتحموا المنزل وأتوا بشاحنة ، أفرغوا فيها أمتعة المنزل بالكامل ، حتى ملابسنا استولوا عليها !
منذ تلك اللحظة قررت أن أرحل بلا عودة من هناك ، أخذت أطفالي وتركت زوارة بلا رجعة.. وأنا الآن عازمة على العودة إلى بلادي الفقيرة ..فالجوع أفضل بكثير مما قاسيته هنا في ذاك السجن الجهنمي وأحمد الله كثيرا على خروجي من هناك وأنا على قيد الحياة .