سلاما يا أبي الذي ترقدُ في قبرِكَ مستريحا

سلاما يا أبي الذي ترقدُ في قبرِكَ مستريحا

أحمد قشقارة

أما بعدُ…

نُحيطكَ عِلماً، إنْ كان يهمُكَ أن تعلمَ أولا يهمُك

أننا مازلنا مسجلين في خانة الأحياء في سجل النفوس

نعاشر النساء ونأكل الفراريجَ المشوية أو الفلافل

ندخنُ السجائر ونفصفصُ البزرَ ونحلم باسترجاع القدس…

وما زلنا نركبُ الباصات والحمير والبغال واللاندروفر

نجلسُ في المقاهي ونشربُ القهوة من غير سكر

نثرثرُ مع الأصدقاء عن البروليتاريا والتلقيح الصناعي وثقب الأوزون

نبتسمُ للذين نكرهُهم

ويبتسمُ الذين يَكرهوننا في وجوهِنا..

ولا ننسى أن نصلي ركعتي الضحى وزيارة القديسين والأولياء الصالحين…

وما زلنا نؤمن أن هناك كذبة بيضاء وأخرى غير بيضاء

ونحن فقط من يحق له تحديد لون الكذبة..

نتمثل مبدأ مكيافيلي

ونحن فقط من يحق له تحديد قيمة الغاية

ونحن فقط من يحق له تحديد الوسيلة…

وما زلنا نترقب النشرة الجوية لنعرف أحوال الطقس

ونأمل أن تأتي النشرة الجوية موافقة لأمزجتنا ورغباتنا…

نحلم بيوم دافئ في الشتاء، ونسمات باردة في الصيف…

وما زلنا نكتب قصائد الحنين السخيفة في فصل الخريف..

ونحلم بربيع أخضر تزهر فيه شقائق النعمان

ننتظر نهوض طائر الفينيق من رماده في اليوم الثالث

وما زلنا نستخدمُ فرشاة الأسنان ونستحمُ بالشامبو وصابون الغار

ونمشطُ شَعرَنا وننظرُ في المرآة إلى صورتِنا

لنتأكدَ من أناقتنا قبلِ الخروج من المنزل

حتى إذا قتلنا أو قُتلنا، نكون في منتهى أناقتنا

وما زلنا، يا أبي الذي ترقدُ في قبركَ مُستريحا أو غير مستريح

نؤمن أن الإمبريالية هي سبب كل الكوارث في الكون

بدءً من اصطدام المريخ بالمشتري

وانتهاء بانسداد بالوعة الصرف الصحي في الحمّام

وما زلنا أيضا نشتمُ أمريكا ونلعنُ الإمبريالية ليلَ نهار

ولكننا لا نملُّ من الوقوفِ كالكلابِ الجائعةِ لساعاتٍ طوالٍ

أمامَ أبوابِ سفاراتِها، نحلمُ بالحصولِ على فيزا ويسيلُ لعابُنا لها …

وما زلنا، يا أبي الذي تنامُ في قبرك أو لعلك مستيقظ

نشتري أسطواناتِ الغاز للطبخ

ونقرأ الجريدة اليومية بدءً من الصفحة الأخيرة

ونصرُّ على قراءة فقرة الأبراج

نحاولُ حلّ الكلمات المتقاطعة ولا نيأس…

لا نيأس من إيجاد الحرف المناسب للمربع المناسب…

ويا أبي، الذي أنت الآن في قبرك أو ربما لم تعدْ فيه،

نحن مازلنا نحرصُ كل الحرصِ

على حفظِ أسماء أشهرِ أعلام الثقافة والفن والفكر والأدب

وحفظ عناوين أشهر الكتب واللوحات والسيمفونيات

كي لا يتهمنا الآخرون بأننا، والعياذ بالله، غير مثقفين..

وما زلنا طبعا نبيحُ لأنفسِنا اتهامَ الآخرين

بأنهم أنصافُ رجالٍ وجهلة ومغرورون…

ولا نتورع عن وصفهم بالخيانة العظمى وقت نشاء

وما زلنا نفعلُ أشياء كثيرة في السرّ والعلن…

هل تفهم يا أبي؟ أقول لك: في السر وفي العلن..

ونستغفر الله……………..

أما بالنسبة لشجرةِ الأمل

التي زرعناها في حقل الوهم

وقضينا عمرنا نسقيها من دموعِنا المالحة

والتي أغدَقتْ علينا بالثمر المرّ والحنظل والعلقم

فقد ذبلتْ أوراقها الآن، والحمد لله، واصفرّتْ

وتساقطتْ واحدة بعد الأخرى فوق التربة الجافة

وكنّستها الأعاصيرُ

وطيّرتها الزوابعُ مع الغبار

والأغصانُ أدركها اليباسُ، وتكسرتْ وتساقطتْ..

لم يبقَ إلا الجذع الأجوف الذي نخرتْ فيه ديدانُ الأرض يا أبي

فصارتْ الشجرةُ كفزاعة بلهاءَ وسط العراء….

من أجل هذا، يا أبي الذي أظنك ترقدُ في قبرك

كان لابدّ لنا من اقتلاع هذه الشجرة الملعونة واجتثاثها من جذورها..

حطبٌ تالفٌ مهترئ لا يصلحُ حتى للحرق في مواقد التدفئة….

وها نحن الآن نحملُ جعبتنا الملأى ببذور اليأس والقنوط والتشاؤم

نفلحُ الأرض ونرمي بذارنا فيها..

وننتظرُ مواسمَ الحصاد

ولعلّ محصولنا من الخيبات يكون وفيرا..

#اليوم_العالمي_للأب

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :