شمالية

شمالية

  • محمد الزروق

صباح العلم يا كريستينا.. مساء الدرس يا فتاة..

 اسمحي لي أن أضع عيني في مقدمة رأسي.. فأنت عندما تجلسين إلى جواري يتغير موضعهما.. ينتقلان ليستقرا على الجانب.. وأبذل مجهودا لإعادتهما إلى مكانهما الطبيعي.. اسمحي لي أن أدرس.. أن أعرف ما يعرضه المحاضر.. وما كتب في الأوراق والكتب..

لم تكن عيناي وحدهما اللتان توليان وجههما شطرك.. سأنصف القصة والقارئ وأنصف خبلي بل وسأنصف سحرك أيتها الفتاة الشمالية..

كان أنفي أيضا يغادر وجهي ويتسلل رغما عن أنفه.. يستقر خلف عنق الفتاة ويشرع في محاولة  معرفة مصدر تلك الأنسام الأخاذة التي تسلب الأنوف.. أنظر إلى زملائي.. كل واحد منهم يحتفظ بأنفه في مكانه.. أنفي وحده هو المشاكس الموجود في القاعة.. أرفع كفي في استحياء وأغطي وجهي حتى يكتفي أنفي أو يقضي وطرا ويعود إلى مكانه..

تعال أيها الملعون.. أنا لست مسؤولا عن تصرفاتك الرعناء.. فوق هذا كله ستأتي وتشهد علي يوم لا ينفع شيء لا في الأرض ولا في السماء.. ستبص أيها البصاص رغم أنك وحدك المسؤول.. هل ثمة أحمق يتنازل عن أنفه ولو لثوان؟ عد وكفاك صبينة..

هل أخبرتكم أن الفتاة شمالية؟!

في الواقع أظنها أتت من أبعد نقطة في الشمال.. فوجهها أبيض كالمايونيز.. أحيانا أرى قليلا من الكاتشب يختلط بالمايونيز فيتغير اللون خاصة عندما يغازلها أحد الباردين الذين يسمونهم زملائي.. وشعرها مغزول من الشمس حقيقة لا مجازاً.. فأنا لا أقوى على النظر إليه لثوان.. شعر ذهبي لامع لا تملكه فتاة من القليلات اللاتي رأيت شعورهن في بلادي.. فجل من رأيت يضعن غطاء للرأس أو يخفين لون الشعر بمستحضرات شمالية..

كانت نادرة.. حتى هنا في هذه البلاد لا تتوفر من مثيلاتها الكثيرات.. هنا خليط من البشر المعجونون بالكاتشب والمايونيز والشيكولاتة والحليب والكابوتشينو.. آلاف من الألوان والأعراق والأذواق.. وأنا أتيت هنا تحديدا لكي أقرأ.. فسحقا لكل من يريد أن يضلني عن جادة العلم حتى لو كان أنفاً أو عينين..

عيناي الضليلتان راقبتا خطوطاً تتشكل في كراستها.. كونت اسما لمغن من بلادها.. أعرفه جيداً.. وشرعت تحاول رسمه.. جاء الرسم مضحكاً.. اسمعي يا كريستينا.. اللي ما هي فرس أبوك توقعك.. دعي الرسم واهتمي بجمالك.. هذا ليس مطربك.. الرجل شبيه بممثل كوميدي أعرفه في بلادنا.. لن أبوح باسمه فتخبرينه.. لن أجزم أو أصدق أنك لا تعرفينه.. لقد وصل الليبيون إلى أبعد نقطة في الكون لإرضاء قلوبهم.. ولو كان في القمر مثلك لوصلوا إليه.. تشجعت وسألتها:

من هذا؟

ألا تعرفه؟ عجبا لك!!

سألتك من.. فلا تجيبي عن سؤالي بسؤال..

قلتها محاولا إغضابها لتترك الكرسي فأتفرغ لدراستي التي أضحت مشدوهة منذ جاورتني هذه السعيدة ولم تسعدني..

إنه مطربي المفضل..

أنا لا أستمع إلى الموسيقى..

عجبا.. شاب مثلك لا يستمع إلى الموسيقى.. إلام تستمع؟

أستمع إلى القرآن..

قلتها محاولا أن أضفي نوعا من الوقار على شخصي المتهاوي.. وأنا أستعد للوضوء وصلاة الظهر.. رفعت يدها لتحجب فمها وأنفها وقهقهت..

ارتسمت على وجهي كل أيقونات الياهو ماسنجر التي تعبر عن الغضب والتعجب.. (لم أك قد عرفت الياهو ماسنجر في ذلك الوقت)..

استدركت وقالت:

أنا أحترم القرآن.. لكنني لا أفهمه ولا أميل إليه..

بدت الفرصة مواتية لأن أبعدها عن مقعدها الملاصق لمقعدي.. أظهرت الكثير من الغضب.. ضربت المنضدة.. رفعت صوتي قليلا.. نهضت لأتوضأ وأصلي الظهر في مخزن صغير للكتب والأدوات مع بعض الطلبة المسلمين..

هل قلت لها إني لا أستمع إلى الموسيقى؟! يا لي من كذوب.. أنا في الواقع أستمع إليها باستمرار.. بل وأغني.. عندما أركب الدراجة الهوائية وأجوب شوارع البلدة لأصل إلى بعض الحدائق الخضراء الخالية أطلق عقيرتي.. بل كنت أصدح باسمها في أغاني:

نار في قلبي واقدة

منك جفاني النوم وانتي راقدة

ياما رينا

 إلا مثيلك لا يا (كريستينا)

يا ريتنا لدياركم ما جينا

الله في عون اللي حبيبه فاقده

في المحاضرة التالية اخترت مكانا بعيدا لتعرف أنني لا أريد لها (خلطة).. وتدعني ودروسي.. ومضت المحاضرة وقد استقرت عيناي في مكانهما الطبيعي.. ظلت يداي تمتدان من حين لآخر لتتحسسا أنفي.. لم يبرح وجهي طيلة الشرح.. أذناي كانتا تستمعان إلى الشرح دون أن تشوش موسيقى كريستينا على انسجامهما..

تناولت غدائي في مقصف للسندويتشات وعدت إلى المحاضرة..

جلست إلى جواري صامتة.. تكفلت عيناي وأنفي بالترحيب بها بطريقتها.. وقالت كلاما كثيرا.. قالت إنها تحب المتدينين.. وإنها عاشت في كنف عائلة مسيحية محافظة.. وإنها تحترم كل الأديان السماوية ولم تقصد الاستهزاء أبداً.. والتفت فجأة لأرى دمعتين صادقتين على عينيها..

أخرجت ورقة وبدأت أكتب.. ونظرت بفضول ثم سألت:

هل تكتب القرآن؟

لا.. في الواقع هو طلب.. طلب إلى جهات الاختصاص في بلادي.. يسمونه تغيير الساحة.. من الصعب أن أشرح لك ما هو.. من الصعب أن تعرفي كل الذي حدث..

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :