شَبَابِيك: اِلتقَاطاتٌ حَياتيةٌ مُباغِثة

شَبَابِيك: اِلتقَاطاتٌ حَياتيةٌ مُباغِثة

شَبَابِيك: اِلتقَاطاتٌ حَياتيةٌ مُباغِثة

يونس شعبان الفنادي(*)

fenadi@yahoo.com

 

تظل القصة القصيرة من الأجناس الأدبية التي شهدت تطوراً ملحوظاَ خلال العقود الماضية في مجال السرد الروائي أو الحكائي على مستوى الوطن العربي كافةً، وأفرزت العديد من المبدعين الذين سجلوا إضافات مهمة أثناء مسيرتها الطويلة عبر الأجيال المتعاقبة. وإن كان القاص العربي الكبير يوسف إدريس رحمه الله أحد فرسان القصة العربية القصيرة قد وصفها بأنها “رصاصة” فذلك لإيمانه بفاعلية التأثير القوي والسريع لها سواء في ذهن وفكر ووجدان المتلقي العربي، أو تأثيراتها وتطوراتها المتعددة في إطار تكوينها البنيوي الذاتي موضوعياً وفنياً.

ومن أبرز تطورات القصة القصيرة هو إفرازها لجنس فرعي إبداعي جديد أصطلح على تسميته الأقصوصة أو “القصة القصيرة جداً” التي يشار إليها غالباً بحروف رمزية مختصرة (ق.ق.ج) والتي صارت شكلاً فنياً حاضراً في المشهد السردي العربي، ومتأطراً بمعظم العناصر الفنية والخصائص التي لا تختلف كثيراً عن مواصفات القصة أو القصة القصيرة إلا في عملية التكثيف اللغوي السردي من حيث عمق المفردة وبلاغة الصورة التعبيرية، وعدم الإطالة والإطناب بمحدودية عدد الكلمات والجمل والعبارات التي يتضمنها نص القصة القصيرة جداً مقارنة بالأجناس السردية الأخرى التي تتدرج في مساحتها التعبيرية لتصل إلى حد الرواية، المصطلح الفني السردي الذي يعد الأطول بين كل الأجناس الأدبية.

ويعتبر الأديب الفلسطيني الأردني محمد عارف مشّه من الكتاب المميزين الذين يملكون تجربة جديرة بالاهتمام في مجال فن كتابة القصة العربية القصيرة جداً، حيث عرف بنبوغه فيها منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي بالمملكة الأردنية الهاشمية، وهو لأكثر من ثلاثة عقود لازال يواصل مسيرته الإبداعية في إثراء المشهد السردي بعدد من النصوص الجميلة التي تضمنتها مجموعاته القصصية الخمسة (حبك قدري 1983، وهمسة في زمن الضجيج 1989، والولد الذي غاب 1995، السلطان قطز 2002، بائعة الكبريت 2006).

وحول فن وتاريخ القصة القصيرة جداً يقول الأديب محمد عارف مشّه في لقاء معه نشر على صفحات مجلة اليمامة السعودية بتاريخ 26 مارس 2015 (..القصة القصيرة جداً هي مولود شرعي وبشهادة ميلاد معترف بها. فللقصة القصيرة جداً عناصر القصة المعتادة من بداية وعقدة ونهاية وشخوص ومكان وزمان، والإبداع الذي جاء فيها هو التخلص من السرد والحشو ..). وحول تاريخ نشأتها يقول (… القصة القصيرة ليست وليدة فترة زمنية قصيرة، بل تعود في نشأتها العالمية إلى عام 1923، وإن كانت حديثة العهد في وطننا العربي سواء من حيث المسمى أو الشكل البنائي في النص ..).

وخلال هذا العام 2016 أصدر الأديب محمد عارف مشّه مجموعة قصصية جديدة بعنوان (شبابيك) احتوت على مائة وثلاثين قصة قصيرة جداً، أهداها بعبارة صريحة ومباشرة في مفرداتها التي تقول (إليك .. مع التحية) ولكنها مفتوحة ومبهمة وشاملة في عنوانها لتحديد المهدى إليه، فهل يكون المقصود هو قاريء هذه المجموعة يا ترى أم أحداً غيره؟. وقد ظهرت على الغلاف الخلفي للمجموعة شهاداتان حول مجموعة (شبابيك) كتبهما ناقدان عربيان هما المغربي “العربي بنجلون” والأردني “هاني أبو انعيم” أكدا فيهما على أن الأديب محمد عارف مشّه يمتلك بكل إتقان أدواته الفنية للتعبير عن معاناة الإنسان العميقة التي يبثها من خلال جنسه الأدبي الزاخر بالمعاني والأريج.

ومؤخراً حين تصفحتُ “شبابيك” المهداة إلي من صديقي الشاعر الفلسطيني جميل حمادة وجدتُ نفسي أسبح بين سطورها القليلة حتى التهمتها سريعاً دفعة واحدة مسجلاً بعض الملاحظات الانطباعية حول سياقها العام كما ترأى لي سواء المتعلق بالمضمون أو تركيبات بناءها اللغوي.

فنصوص “شبابيك” هي عبارة عن التقاطات سردية قصيرة لمشاهد حياتية سريعة عابرة ومواقف تتسرب في زمننا ولا نحس بها إلاّ حين يقبض عليها غيرنا ويقدمها لنا باقة تحمل كل التنوع الجميل مثل الذي فاجأنا به الأديب محمد عارف مشّه، فنظل ننجذب إليها مبهورين للوهلة الأولى، ثم ندرك أنها مرت بنا ذات زمن غابر، وعشناها ذات لحظة فائتة ولكننا لم نكثرت بها، إلا أن الكاتب محمد مشّه برع فعلاً في التقاطها وتوثيقها بأدوات سردية مهنية لا تحمل ملل ورتابة المفردة ولا غموض الفكرة البائسة، بل ظلت تتراقص في الذهن كومضة خاطفة لنص من نصوص شعر “الهايكو” الياباني أو ما يعرف في الشعر العربي بقصيدة البيت الواحد التي التفت إليها مبكراً الأديب الليبي الكبير الدكتور خليفة التليسي رحمه الله وأثارها بشكل مبهر وآخاذ منذ عقود حين أصدر كتابه المميز (قصيدة البيت الواحد)، الذي أبرز فيه بلاغة ذاك البيت الشعري الوحيد كومضة يقول كل ما لديه دفعة واحدة بلا مقدمات ولا نهايات، ويمضى، تاركاً بصمته وأثره القريب والبعيد في أعماق وجداننا، ومحركاً عقولنا للتدبر والتأمل في معناه ودلالاته ومقاصده.

في بعض نصوص “شبابيك” يظهر جلياً واضحاً أسلوب المخرج السينمائي الانجليزي العالمي “ألفريد هيتشكوك” المباغث والمفاجيء، والصادم أحياناً لكل التوقعات التي قد يحملها المشهد، فتفاوتت ردود أفعالي تجاه ذلك وأنا أقلب صحفات “شبابيك”، متنقلاً بين الابتسام والضحك والقهقهة حيناً، والألم والتأسي والأسف والذهول أحياناً أخرى، إلاّ أنها تظل جميعها مكللة بالاعجاب والابتهاج لهذه القدرة الفائقة في الاثارة واستنطاق أحداث المشاهد الملتقطة وتحليلها بشكل مكثف وعميق، رغم أن الفضاء المكاني لكل النصوص كان حيزاً محدوداً جداً وضيقاً لا يتجاوز غالباً المقهى أو البيت إلا أنها لم تتخلى عن إحداث الدهشة بالحبكة الفنية المتقنة، حتى وإن تكرر ظهور بعض أدوات تأثيت النص مثل السيجارة والدخان وطيف المرأة في كثير منها. فمثلاً في القصة القصيرة جداً التي وردت بعنوان (رعب) يروي الأديب محمد عارف مشّه أقصوصته قائلاً: (سلخَ فروةَ رأسِ الخروفِ. وضعَهُ في القدرِ. استيقظَ الخروفُ من نومهِ. ماتَ الرجلُ من الرُعبِ). إن هذا التصوير الانقلابي غير المتوقع يشكل مفاجأة صادمة للمتلقي تتوقف عندها حواسه ويظل مبهوراً بهذه الالتقاطة الافتراضية الجميلة، والخيال الخلاب البعيد المدى والمتسع لكل غريب ومثير ومبهر.

ومن التقنيات السردية الفنية التي واظب عليها الكاتب محمد عارف مشّه في “شبابيك” هي استعمال صوت الراوي في الخطاب السردي بدلاً عن تسمية شخصيات معينة أو إجراء حوارات متنوعة لإيصال فكرة ورسالة النص، وهذا أمر تفرضه طبيعة مساحة النص المحدودة ونوعية الجنس الأدبي القصير جداً، فظل الكاتب متوارياً عن الظهور يبعث رسائلة المشوقة بكل خفة ولطافة وذكاء، ليذكرنا بأصوات مسرح العرائس التي يلعب فيها صوت الراوي دوراً مهماً في ترسيخ فكرة الرسالة المتحركة بذهن المتلقي.

كما أن السؤال ظل حاضراً في (شبابيك) بأدواته المتعددة (كيف، متى، لماذا، أين،…) منذ النص الأول (في المطعم) حين يتسأل القاص (لماذا أختصِرُ فيكِ كلّ النساء؟)، ثم في نص (زواج) الذي يختتمه بقوله (.. منذ متى أنجبتِ كلَّ هؤلاء ؟؟؟)، ثم يتواصل في نهاية نص (الملح الأسود) بقوله (.. أين طعام الغذاء يا أبي؟)، ثم في (صحوة) حين يقول (.. من سرقني؟)، ثم في (هوس) يتساءل الراوي (من أنا؟)، أما في (طيف) يتسأل في استهلال النص بقوله (هل تسمح لي بمعانقتك؟) ثم يختتم نفس النص بالقول (تُرى هل كنت هي؟)، وفي نص (من قتل أبي؟) يتصدر السؤال عنوان النص ويختتمه بالقول (أين أبي؟)، وفي (الضفدع) يستغرب متسائلاً (فكيف سيسعني؟) ثم في (حجر) يقول (أتراهُ الحجر عظامُ طفلٍ شهيدٍ تكلست؟). وإن كان السؤال في كل ما سبق يظهر في عنوان وخاتمة نص القصة القصيرة جداً فإنه في (لماذا؟) يظهر في عنوان وأول سطر في النص حين يتسأل (لماذا تلهث؟) .

ولاشك فإن للسؤال مهمة خطيرة في إدراك الحقيقة والوصول إلى درجة الاستمتاع القصوى عند مطالعة النص القصصي تكمن في دق نواقيس الفكر للبحث والتأمل والتأويل، فهو أساس إدارة محركات التفكير في عقل القاريء حتى بعد مغادرة  فضاء النص، حيث يظل ممسكاً به للتدبر والتوغل في مضمونه، وهذا ما يجعل رسالة النص الإبداعي تتفاعل في المتلقي وتبقى مؤثرة في فكره ووجدانه لفترة من الوقت تطول وتقصر حسب الموضوعات التي يفجرها التساؤل المطروح.

وحملت “شبابيك” تكراراً متنوعاً على مستوى المفردة الواحدة البسيطة حيث وردت جملة (ومضى) متكررة في (شعر البنات) و(الأب) و(كتم رغبته) و(ظل) و(حالة) وغيرها. وكذلك على مستوى العبارة المركبة حيث تكررت عبارة (خرج البطل من القصة غاضباً محتداً) حيث نجدها في مستهل (هروب) و(الخروج) أيضاً. بينما تكرر نص (لا شيء) برمته بشكل شبه كلي متطابق ماعدا التصرف بإضافة عبارة قصيرة في خاتمة النص المكرر.

وإن كانت (شبابيك) جنساً أدبياً حديثاً وجديداً فإن التراث القديم ظل حاضراً فيها من خلال استحضار الموروث الفلكلوري واقتباس التعابير الشعبية في نص (الصندل) والذي يورد القاص في مستهله (طاق طاق طاقيّة ….. شباكين بعليّة). وفي المقابل برز تأثر الأديب محمد عارف مشّه بالتقنية الحديثة والانترنت والتواصل الألكتروني بشكل واضح من خلال نص (فنجان قهوة) الذي يقول فيه (قرأ في بريد زوجته الإلكتروني وهي تجلس بجواره: “زوجي العزيز قررتُ خلعك بلا أسباب”. نظر إليها ثم كتب: “قومي احضري لي فنجان قهوتي”. بحثت في جوجل. أرسلت له صورة فنجان القهوة ساخناً.).

أما نص القصة القصيرة جداً (شبابيك) التي جاءت المجموعة الصادرة باسمها فهو كالتالي: (تضع ساقاً على ساق، يبان بياض ساقيها، ضوء القمر يملأ الشرفة، تخفي البياض بردائها الأسود، ترفع خصلات من شعرها إلى الوراء بدلال، ترتشف من فنجان قهوتها، تمتصّ شفتيها ثانية، ينخلع قلب الولد، تشعل سيجارتها، تنفث الدخان نحوه، يغمض الفتى عينيه، وينام). إن هذا النص يمثل إلتقاطاً وتصويراً متكاملاً لمشهد عادي تجتمع فيه عدة أركان وشخوص هي: المرأة والولد والقهوة والسيجارة والقمر، وكذلك عدة أطراف جسدية: الساقين، الشفتين، العينين لتحرك جميعها مشاعر متعددة تتداخل بين الافتنان والحب والرغبة الشهوانية والحلم البريء والتي يلخصها القاص في خاتمة يترك فيها شبابيك الخيال عند القاريء مشرعة بلا حدود أمام ما هو أبعد وأغرب وأجمل وأحلى.

إن الأديب محمد عارف مشّه يؤكد في مجموعته الأخيرة (شبابيك) أن هذا الجنس السردي القصير والمكثف جداً مكتظ بالبلاغة والفن والذكاء والإبداع، ويثبت أيضاً من خلال نصوصه القصصية التي صاغها أنه فارس بارع يتقن أدواته الفنية ليستوطن وجدان وفكر القاريء ويحظى منه بالإعجاب والثناء.

(*)  أديب وكاتب وإعلامي مستقل من ليبيا

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :