صاحب محل … ( ٣)

صاحب محل … ( ٣)

بقلم :: سالم الهمالي
الصحراء التي انتم فيها الآن كلها مقدسة .. ما يوجد نبي إلا ومشى عليها ( كلهم)، من ابراهيم الخليل الى سيدنا محمد ( صلى الله عليه وسلم) . [ تبعه الجميع بالصلاة والسلام على محمد] … هذه ارض مباركة. لكن هذا الحكي كان زمان … اليوم غير شكل، من ابوبطيخ الله يلعنوا !!
تصدقوا ان بهذه الارض كانت زراعة وعمران كثير، كانت حضارة من قبل ميلاد سيدنا المسيح ( عليه السلام)، ما ضل مِنْهَا شيء غير الاطلال … مدينة االبتراء، اكثر مكان يزوره السياح بكل الاْردن. وصف ابوعبدالله بدقة الاثار في مدينة البتراء حتى بدت وكانها مجسدة أمامهم، الصخور والنقش عليها، الممرات، المعابد، هنا قبر هارون النبي وهناك واحد غيره، حتى تمنوا لو انهم اختاروا طريق البحر الميت وليس الصحراوي
احد الركاب الذي كان نائما في بداية الطريق سأل ابو عبدالله: ومن هو ابوبطيخ الذي ذكرت اسمه ؟!
ابو عبدالله تفاجأ بالسؤال، وربما لا يصدق ان هناك احد لا يعرف ابوبطيخ، وبدون ادراك منه، داست رجله على مكبح السيارة بقوة، جعلت جميع الركاب يندفعون الى الامام من الكراسي الجالسين عليها، وتحتبس انفاسهم، لم يفلح في التخفيف من اثرها الا حزام الأمان، الذي يحرص ابو عبدالله على التأكد من ان كل الركاب قد احكموا اقفاله قبل ان تحرك التاكسي عجلاتها، لما شهده من الاثار الكارثية لحوادث الطرق على من يغفلون عنه. مد يده وذراعه الأيمن بحركة سريعة الى الخلف صحِبتها نظرة حادة الى الراكب الذي نطق بالسؤال .. انت ما تعرف ابوبطيخ ؟!! لورانس العرب … ” شيخ” الثورة العربية ؟!!
تحركت السيارة من جديد، بعد ان استعادوا انفاسهم، واطمأنوا ان الامر لا يعدو عن كونه ردة فعل عنيفة من ابو عبدالله، الذي كان يظن ان كل العرب يعرفون تاريخهم !! سلام كان مشدوها اكثر من الآخرين، اذ كان عليه ان يستعيد توازنه وكذلك زوجته، التي لم تكن تتابع ما يقوله ابو عبدالله، فعندها ما يشغلها ويكفيها.
بدأ حديثه عن ابو بطيخ كما يسميه، بجملة عجيبة وفيها تساؤل، قائلا: انتم تعرفون انه ابن ……، ايه ابن ….. ؟! ربما منعه الحياء من النطق، او وجود امراة معهم.
اختلس نظرة سريعة الى الركاب، لمس فيها تعجبهم، وجهلهم ايضا بما يقصد .. حتى سلام كثير الاطلاع، لم يفهم ما يقصده ابو عبدالله .
أضاف بما يبدو اكثر احتشاما: يعني يا عمي أمه وأبوه ما كانوا متزوجين، فهو ابن ….. ؟! واستمر في الحديث …
لورانس يعرف هذه المنطقة اكثر من اي واحد فينا، درس التاريخ في جامعة أوكسفورد يا عمي، أتولد في ١٨٨٨ ميلادي، ودخل الجامعة في ١٩٠٧، ثلاث سنين وتخرج منها، وعلى طول على سوريا، بحث في الاثار، يعنى درس في الكتب، وطبق على الواقع. قبل ما يعمل في الاثار نزل على لبنان وتعلم العربي، لزوم الشغل، ومنها كان جاهز، وقت ما بدأت الحرب العالمية سنة ١٩١٤ ميلادي، دخل للجيش الانجليزي، وطلعوه مع الشريف حسين واولاده، حتى يتجسس عليهم.
الانجليز كانوا أعداء للاتراك، وعملوا على تشجيع الثورة بين العرب ضدهم. ابو بطيخ عرف كيف يلعب عليهم، وأقنعهم بأن يحاربوا الأتراك، ووعدهم ان يساعدهم بعد ما ينتهوا من الأتراك على قيام دولتهم العربية. توقف قليلا .. ليزيد من اهتمام سامعيه، وتشوقهم لسرده لأحداث تاريخ المنطقة التي يسيرون عليها الان.
لورانس ” ابوبطيخ” يلبس عربي، يتكلم عربي، حتى صار الشريف حسين يقول عنه انه مثل ولده !! يجلس في بيوتهم، ويشرب قهوتهم، ويسولف واياهم.
يا حسرة .. قبل قرب ثمانين عام كان عندنا قطار وسكة حديد، من المدينة المنورة، تطلع على الشام، وكانت قريب توصل عند إستانبول، ما بقي منها غير شيء بسيط في الجبال جنوب تركيا حتى تكتمل. الانجليز عملوا على خرابها، وابوبطيخ يخطط والعرب الذين كانوا معه يفجروا في سكك القطار.
التفجير من زمان، بدأ مع الانجليز، ولورانس ابنهم صار، كأنه ابن الشريف حسين يعمل في تخريبها، حتى الأتراك يلتهوا في التصليح .. هو يخرب وهم يصلحوا، لعند خربت كل السكة، وما عاد فيه قطار يتحرك. الشريف حسين عمل مع الانجليز، وأعطوه وعد انه يبقى ملك على كل هذه البلاد من الحجاز الى عند الشام وحلب، هم خدعوه، واتفقوا مع الفرنسيس على سوريا، وما صفي للشريف حسين غير الاْردن، بلد صغير وما فيه موارد !! الله يلعنك يا ابوبطيخ .. الله يلعنك يا ابوبطيخ
انبهر الجميع بما يقوله ابوعبدالله، وأصبحوا يستشعرون الأحداث التي جرت في هذه المنطقة، وابوعبدالله يزيد من التفصيل هنا وهناك، وختم بالقول، وهاي الثورة العربية الكبرى يا جماعة، وشيخها لورانس ابوبطيخ ، …. وكل زمان وعنده ” ابوبطيخ”!!
كانت هدى تسمع في حكي ابو عبدالله، وتنظر الى عيني سلام متشككة في صحة ما يقول، لكن إيماءة سلام القاري النهم للتاريخ تؤكد صدق كلامه. وجدت صعوبة في في تصديق الامر، كيف يمكن ان يكون هناك سكة حديد من المدينة المنورة الى الشام ( دمشق) ومنها تقريبا الى إستانبول في سنة ١٩١٤ ميلادي، ولا توجد سكة حديد بين مكة والمدينة المنورة في سنة ١٩٩٦ ميلادي، والسعودية فيها خمس احتياطي النفط في العالم، وتصدر منه عشرة ملايين برميل يوميًا ؟!
مع بزوغ الفجر كانت التاكسي على تخوم مدينة العقبة، وشيئا فشيئا اصبح من الممكن التعرف على كل ملامح وجه ابوعبدالله ووجوه الآخرين، وسلام يخمن ويسأل نفسه: اذا ابوعبدالله سائق التاكسي يعرف كل ذلك، لماذا يعيش العراق في حصار، واطفاله يعانون الجوع ؟! يلعن النفط، فهو نعمة ونقمة في ذات الوقت، ثم أضاف: يلعن ” ابوبطيخ” ..
وصلوا العقبة وشمس نهار جديد تنشر أشعتها حول المدينة، حركة السيارة وشيء من الضجيج كان بشارة واستعادة لروح الحياة التي بدت ساكنة في رحلتهم الليلية، لم يخفف من وطأتها الا ابوعبدالله وحديثه الشيق. نزل الركاب، ومعهم سلام وزوجته هدى، انزلوا امتعتهم، واتجه كل واحد منهم في حال سبيله، الا سلام وهدى الذين توقفوا بجانب حقيبتي سفر صغيرتان، وكانهم لا يعرفون اين وجهتهم. لمح ابوعبدالله حيرتهم قبل مغادرته، فتح باب التاكسي وترجل الى حيث يقفون، اين وجهتكم ؟
اجابه سلام: والله نحن نريد نسافر للقاهرة، هل تعرف مكان العّبارات ؟!
يتبع الحلقة ( ٤) …….. رواية

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :