صبرٌ حتى الموت: كيف يدفع صمت العائلات بناتهن إلى قبور زيجات قاتلة في ليبيا ؟

صبرٌ حتى الموت: كيف يدفع صمت العائلات بناتهن إلى قبور زيجات قاتلة في ليبيا ؟

  • تحقيق: سلمى مسعود.

ليلٌ قائظ في أحد أحياء سبها الجنوبية. تخرج السيدة م.م إلى باحة المنزل الصغيرة على وقع أنفاسها المتلاحقة. في الداخل، يتصاعد صراخ زوجها (ابن عمها) الذي أنهكه الكحول والغضب. تحاول الاستنجاد بكلمات متقطعة، لكن أحدًا لا يلبّي النداء؛ الجيران اعتادوا سماع الجلبة المكتومة كل ليلة تقريبًا. اللحظات التالية كانت أشبه بالكابوس؛ يدان غاضبتان تطبقان على رقبتها، وركلات تتوالى على جسدها النحيل. بعد سنواتٍ من الضرب والإهانة التي سكتت عنها عائلتها، خارت قواها تلك الليلة. في الصباح، ساد صمت ثقيل تخللته شهقات أمٍ ثكلى؛ فابنتها م.م فارقت الحياة ضربًا حتى الموت على يد الزوج الذي أقسمت عائلتها أن تبقيها تحت سقفه مهما كلّف الأمر. كان يمكن أن تنجو بحياتها لو فتحت العائلة الباب أمامها منذ زمن، لكنها عادت إليه مرارًا بقرار الأهل لتلقى مصيرًا قاتلًا في بيت الزوجية.

عادت لتُقتل بقرار أهلها.

تلك المأساة ليست حالة فردية معزولة؛ كثيرات غيرها عُدن قسرًا إلى منزل الزوج المعنِّف استجابةً لضغوط الأهل والمجتمع. تقول إحدى الضحايا من طرابلس إنها تقدّمت بشكوى ضد زوجها بسبب سوء معاملته، لكنّ “التدخل الاجتماعي أجبرها على إسقاط الشكوى والرجوع إلى زوجها” الذي واصل تعنيفها. وبرّرت تلك الزوجة قرارها بالتحمّل قائلةً إنها ستصبر “من أجل أولادها كي لا يفقدوا رعاية العائلة”. لقد غلّبت مصلحة أطفالها وخشية وصمة الطلاق على سلامتها الشخصية، فأعادها أهلها إلى بيت العنف لتواجه مصيرها وحيدة.

في بنغازي، أثارت جريمة قتل الشابة فرح الخضر (19 عامًا) صدمة واسعة. فبعد زواجها وهي مراهقة، عاشت فرح في عزلة تامة عن أهلها “لسنوات طويلة” بسبب خلافات بين الزوج وعائلتها. وعندما توسّلت لزوجها أن تزور أهلها لحضور زفاف أخيها، ثار غضبه واندلع شجار حاد بينهما انتهى بإقدامه على قتلها ضربًا بمساعدة شقيقه. كانت تلك الزيارة الموعودة محاولة يائسة لكسر قيد العزلة المفروض عليها، لكن الثمن كان حياتها. يقول جيران فرح إنهم لم يكونوا يعلمون ما يجري خلف الأبواب؛ فصمت العائلة وتجنّبها الخوض في مشاكل ابنتهم الزوجية أسهما في بقائها رهينة لزوجها العنيف حتى قضى عليها.

في حالات أخرى، قد تحاول الضحية الفرار مؤقتًا إلى بيت أهلها، لكن القرار غالبًا ما يكون إعادتها تحت ذرائع شتى. قبل سنوات في سبها، هربت محامية شابة إلى منزل والديها بعد أن تحول زوجها (وهو وكيل نيابة مرموق) إلى شخص عنيف تحت تأثير المخدرات. طلب منها أهلها التنازل عن كل شيء مقابل الطلاق والابتعاد عنه، لكن ردة فعله كانت دامية؛ إذ اقتحم بيت أهلها بسلاح ناري وأطلق النار عليها فأرداها قتيلة أمام عائلتها في ديسمبر 2013. هكذا تحولت محاولة الخلاص إلى خاتمة مأساوية، فحتى عندما قررت العائلة إنقاذ ابنتها، سبقهم رصاص الزوج المنتقم. بعض الأهالي إذن يدفعون بناتهم دفعًا للعودة إلى أزواجهن الخطرين خوفًا من لقَب “مطلقة”، وبعضهم وإن اختار حمايتهن قد لا يفلح أمام وحشية المعتدي. والنتيجة واحدة في الحالتين: عودة إلى بيت الزوجية لا عودة منها للحياة.

أصبر… حتى الموت.

اصبري”، كلمة تسمعها معظم الزوجات المعنَّفات في ليبيا كلما شكَونَ ما يتعرضن له. في مجتمع قبلي محافظ، يُعَدُّ إفشاء أسرار الحياة الزوجية أو طلب العون جرمًا أكبر من جريمة الاعتداء نفسها وفق العرف الاجتماعي. يوضح ضابط الشرطة يونس شوايل من سبها أنه من النادر أن تأتيه سيدة تشتكي تعرضها للضرب أو الإيذاء “مهما بلغ حجم الضرر الواقع عليها”؛ فالمرأة التي تشكو تعتبر وكأنها تجلب العار لأهلها. هكذا يُغلَق الباب أمام الضحايا: يُطالبن بالصبر والسكوت حفاظًا على السمعة، حتى لو كلفهن ذلك حياتهن.

خلف الأبواب المغلقة، تتصاعد حرب صامتة ضد النساء في ليبيا. أشارت تقارير حقوقية إلى ارتفاع جرائم العنف الأسري بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. ويؤكد ناشطون اجتماعيون ومسؤولون ارتفاع معدلات هذا العنف بنسبة 30% خلال العام الماضي وحده. وبحسب مركز حماية الأسرة والطفل في طرابلس، تم الإبلاغ عن “أكثر من 1500 حالة عنف أسري خلال 2023” – رقم يُعتقد أنه أقل بكثير من الواقع بسبب التكتم المجتمعي على معظم الحالات. فكثير من النساء يتجرعن المعاناة في صمت؛ يخشين الإفصاح أو طلب المساعدة، حتى إذا وصل الأمر إلى التعذيب أو القتل.

في مارس 2025م  فقط، شهدت ليبيا ثلاث جرائم قتل أسرية مروعة خلال أسبوع واحد، راحت ضحيتها ثلاث نساء من مناطق مختلفة. من بينهن هدية الدرسي (38 عامًا) التي ذبحها زوجها وهي حامل بطفلها الرابع في قرية زاوية العرقوب شرق البلاد. وبرر أقارب الزوج جريمته بزعم أنه “ممسوس” أو مسحور وفاقد للإدراك، لضمان إفلاته من العقاب. أما في طرابلس، فقُتلت الشابة آية الفيتوري (24 عامًا) برصاصة بندقية كلاشنكوف أطلقها زوجها بعد أربعة أشهر فقط من الزواج، إثر خلاف حاد بينهما. حاول الزوج تضليل العدالة بالادعاء أنها انتحرت، لكن تقرير الطب الشرعي أثبت تعرضها لفترة طويلة من الضرب والتعنيف قبل مقتلها. هكذا تكشف التفاصيل أن آية وغيرها عِشن في جحيم منزلي صامت تحت شعار الصبر، إلى أن انتهى الأمر بمأساة دامية.

الإعلام الليبي… الغائب الأكبر عن معركة مواجهة العنف الأسري.

تقول الصحافية منى توكة من صحيفة فسانيا إنّ ما يحدث من جرائم قتل الأزواج لزوجاتهم في ليبيا ليس مجرد حوادث فردية، بل هو نتيجة مباشرة لترسّخ “ثقافة العيب” ووصمة الطلاق في الوعي المجتمعي.

تضيف أن الفتاة الليبية تُربّى منذ طفولتها على أن طلب الطلاق أو الشكوى من العنف هو عار يلحق بها وبعائلتها، بينما يُغضّ الطرف عن عنف الزوج، حتى لو وصل إلى الضرب المبرح أو الإهانة أو التهديد بالقتل. “المجتمع”، على حد تعبيرها، “لا يكتفي بحماية المعتدي، بل يُعيد إنتاج صورة المرأة الصالحة على أنها الخانعة، والرجل القوي على أنه المسيطر“.

وتشير توكة إلى أن أخطر ما في الأمر هو أن هذه المفاهيم المغلوطة لا تأتي فقط من العامة، بل أحيانًا تُكرَّس بخطابات دينية أو عرفية تُسيء فهم القوامة وتحولها إلى أداة قمع، ما يجعل كثيراً من النساء يرين الصبر خياراً وحيداً، حتى وإن كان ثمنه حياتهن.

أما عن دور الإعلام، فتقول إن الإعلام الليبي ما زال مقصراً في كشف حجم الكارثة، وإن ما يصل إلى الرأي العام لا يمثل إلا “قمة جبل الجليد” من الجرائم التي تبقى طي الكتمان. وترى أن الخطاب الإعلامي الحالي يتعامل مع العنف الأسري باعتباره مشكلة اجتماعية عابرة، لا كجريمة تستحق المواجهة.

وتختم بقولها: “لو امتلك الإعلام الليبي الجرأة والاستمرارية في طرح هذه القضايا كما نرى في الإعلام المصري أو التونسي، لأمكننا فتح نقاش مجتمعي واسع يغيّر الثقافة السائدة. الإعلام ليس مجرد ناقل للخبر، بل أداة ضغط وتغيير، والصمت أو التناول السطحي يمنح الجناة غطاءً للاستمرار، ويجعل دم النساء مجرد خبر عابر في شريط الأخبار“.

شهادة حقوقية: العنف الأسري في ليبيا بين التبرير وغياب الردع.

توضح الناشطة الحقوقية مروة سالم أن العنف الأسري في ليبيا لم يعد مقتصرًا على قتل الأزواج لزوجاتهم، بل تعدّاه ليشمل الإخوة وحتى الأبناء، في ظل غياب إحصائيات رسمية حقيقية بسبب تحفظ الجهات التنفيذية على الأرقام. وتضيف:

عملنا خلال سنوات الذروة على كشف هذه الجرائم ونقلها من خانة المسكوت عنه إلى خانة الحقيقة، عبر قصص حقيقية لسيدات قتلن على يد أسرهن، وقد اختار أحباؤهن المخاطرة بحياتهم لكشف الحقيقة. ما نشهده اليوم هو ارتفاع واضح في معدلات العنف الأسري، خاصة بعد الثورة، مدعومًا بالإفلات من العقاب، والتبرير المجتمعي للجريمة باعتبارها ‘مسألة عائلية’، حتى في حالات القتل الوحشي.”

وترى سالم أن المجتمع والعائلة يتحملان كامل المسؤولية عن هذه الجرائم، نتيجة القيم الاجتماعية التي تعطي الأولوية للجماعة على حساب الفرد، وتجعل من المرأة تابعة لا تملك قرارها. كما أن الأجهزة التنفيذية، في بعض الحالات، تساهم في حماية الجناة من خلال ترهيب المبلّغات أو التلاعب بتقارير الطب الشرعي.

وعن أوجه القصور، تشير إلى غياب قانون خاص يجرّم العنف الأسري بعقوبات رادعة، والاكتفاء بنصوص عامة تعتبر العنف وسيلة تربية، بالإضافة إلى ضعف مراكز الإيواء وعدم ملاءمتها لاحتياجات المعنّفات. وتختتم بالقول:  “نحتاج إلى تشريع واضح، وآلية وطنية للتعامل مع هذه الجرائم، ودعم المنظمات الحقوقية، وتوظيف المنابر الإعلامية والدينية لوقف العنف، مع ضمان الحماية الفعلية للنساء ومساءلة كل من يعرقل وصولهن للعدالة.”

الثغرات القانونية… ما بين النص والتطبيق.

بعد استعراض هذه الوقائع المؤلمة، كان لابد من الوقوف على رأي القانون في مثل هذه القضايا. المستشار القانوني عقيلة محجوب أوضح لـ فسانيا أن “قانون العقوبات الليبي قد جرم جميع أنواع العنف الأسري، بل وشدد العقوبة على مرتكبيها، وخص إساءة معاملة الأسرة بنصوص خاصة. ولا يجوز للولي إجبار الفتاة على الزواج بمن لا ترضاه، فكيف بإجبارها على العودة لبيت الزوجية رغم وجود خطر يهدد حياتها؟

ويضيف: “إذا ثبت أن الأسرة كانت تعلم بالخطر، فإن ذلك يعد جريمة في حد ذاته. كما أن عدم الإبلاغ عن جرائم العنف، سواء من الضحية أو ممن يلزمهم القانون بالإبلاغ كالأطباء، يعد مخالفة صريحة للقانون.”

كما أكد أن “هناك مراكز إيواء توفرها الدولة باعتبارها ولي من لا ولي له، لكن بعض النصوص القانونية تحتاج إلى تعديل، إضافة إلى ضرورة نشر ثقافة الشكوى واستيفاء الحقوق عبر القانون، لضمان وقف هذه الجرائم قبل وقوعها.”

شهادة زمزم أحمد موسى: “الصبر الذي يفرضه المجتمع… قد ينتهي بجنازة

تقول زمزم أحمد موسى، معلمة وناشطة مجتمعية ومرشحة لعضوية المجلس البلدي سبها، إن جرائم قتل الأزواج لزوجاتهم في ليبيا لم تعد حالات نادرة تُروى على استحياء، بل ظاهرة متكررة تتزايد ملامحها عامًا بعد عام، “ليس لأن العنف قلّ، بل لأن بعض الأصوات كسرت جدار الصمت”. وتشير إلى أن تفكك المنظومة الأمنية وغياب المساءلة ساعدا على تفاقمها، في ظل سكوت مجتمعي يمنح الجناة حماية غير معلنة.

وترى زمزم أن وصمة الطلاق في المجتمع الليبي ما تزال أقوى من مشهد العنف ذاته، موضحة أن “الفتاة التي تطلب الطلاق تحمل ذنب فشل الزواج، وتُرمى باتهامات تمس كرامتها، بينما يتغاضى الجميع عن سلوك الزوج مهما بلغ من قسوة”. وتضيف: “بعض العائلات تخشى كلام الناس أكثر من خوفها على حياة بناتها، فيتحول الصبر إلى عبء يُفرض على الفتاة وحدها باسم الستر والعيب، وكأنها ملكية مشتركة لا صوت لها“.

وعن مسؤولية المجتمع، تؤكد أن العائلة والمحيط الاجتماعي شريكان في الجريمة بالصمت أو حتى بالتواطؤ، “حين يُقال لفتاة: ارجعي وخليها على الله، مقتدين بالمثل الشعبي ظل راجل ولا ظل حيطة، فهذا خطاب يمهّد الطريق للعنف وربما للقتل. وعندما تُبرر الجريمة بأنها قضاء وقدر، فإننا نمنح القاتل غطاءً دينيًا واجتماعيًا غير مشروع“.

وتلفت زمزم إلى أن القانون الليبي يفتقر إلى نص صريح يجرّم العنف الأسري ويوفر حماية وقائية للمرأة قبل أن تُقتل، فضلًا عن غياب شبه تام لمراكز الإيواء، خاصة في الجنوب، حيث تظل النساء بلا ملاذ، وتُجبر الكثيرات على البقاء في بيئة مؤذية، بينما تُقابل الشكاوى بالتجاهل أو بدعوات “الصلح”، وأحيانًا تهديد الضحية بسحب أطفالها إن طلبت الطلاق.

وتختتم حديثها بسلسلة حلول عاجلة، أبرزها: سنّ قانون واضح لتجريم العنف الأسري، إنشاء مراكز إيواء آمنة وسرية في كل مدينة، إطلاق حملات توعوية لتغيير المفاهيم المرتبطة بالعيب والصبر، تدريب الكوادر الأمنية والقضائية على التعامل مع قضايا العنف، ودعم النساء اقتصاديًا ليستطعن الاستقلال عند الحاجة.

أما رسالتها للأهالي فهي حاسمة: “ابنتك ليست ملكًا للمجتمع ولا عارًا إن طلبت النجاة، لا تعيدوها إلى الخطر، فقد لا تعود في المرة القادمة”. وتوجه للسلطات نداءً صريحًا: “صمتكم قاتل وتقاعسكم مشاركة في الجريمة… لسنا نطلب أكثر من حق الحياة وكرامة تصان داخل البيوت لا تُسلب فيها الأرواح”. وتختم باقتباس نبوي: “استوصوا بالنساء خيرًا”، داعيةً لأن يكون هذا الهدي هو البوصلة في صياغة السياسات وحماية الأرواح.

مطلقة؟ لا، قتيلة!

تتجنب عائلات ليبية كثيرة كلمة “مطلقة” كمن يتجنب عارًا مؤكّدًا. فعودة الابنة إلى بيت أهلها منفصلةً عن زوجها يعتبرها البعض فشلًا ووصمة اجتماعية تلحق بالعائلة كلها. “أي عائلة سترضى بعودة ابنتهم المطلقة وبصحبتها فتاة مراهقة؟” تتساءل سيدة معنّفة اسمها نادية عثمان بمرارة. هذا التساؤل يكشف حجم الضغط الذي يُمارس على المرأة لتبقى في بيت الزوج مهما كان الثمن. عائلة السيدة م.م في سبها أصرّت أنها “لن تسمح بابنتها مطلقة تحت سقفها” حسب مقربين،  دفن المشكلة داخل جدران بيت الزوجية بدلًا من مواجهة حديث الناس. لكنهم بذلك دفعوا ابنتهم حرفيًا إلى القبر. فبدل أن يحمل لقب “مطلقة”، بات اسمها مقترنًا بلقب أبشع هو “ضحية جريمة قتل أسرية”.

إن الخوف من العار والنبذ لا يلجم فقط رغبة الضحية في النجاة، بل يمتد أيضًا إلى التستر على الجرائم نفسها. يشير الناشط أبوبكر النعيري إلى وجود “حجب مجتمعي” يمنع وصول بيانات حقيقية عن ضحايا العنف، إذ تخشى العائلات أن “يلحق خروج هذه المعلومات العار بأقارب الضحايا وربما بقبيلة كاملة”. هذا الصمت الجماعي يجعل من الصعب حتى إحصاء الظاهرة أو دراستها، وكأن المجتمع بأكمله يردد: لا مشكلة ما دمنا لا نتكلم عنها. لكن الثمن الفادح تدفعه النساء. كثيرات منهن ينتهي بهن الحال قتيلات بدلًا من أن يُنعَتن يومًا “بالمطلقات”.

ثلاثة جدران تحاصر المرأة: قانون يحمي القاتل، أهل يصمتون، ومجتمع يبرر

في ليبيا، لا تقف مأساة النساء المقتولات عند لحظة سقوط أجسادهن على الأرض، بل تبدأ المأساة الحقيقية حين تتحول حياتهن إلى رواية يكتبها القاتل كما يشاء. بعض الأزواج، بعد أن يزهقوا روح زوجاتهم، لا يكتفون بالجريمة، بل يمدّون أيديهم إلى شرف الضحية ليدنسوه باتهامات كاذبة، وهم يدركون جيدًا أن القانون سيقف معهم، وأن ثغراته ستخفف عنهم العقاب أو تمحو الجريمة تمامًا.

أما الأهل، فهم في أغلب الأحيان يقفون عند مفترق طرق قاسٍ: بين الصراخ في وجه الظلم أو الانحناء أمام العادات والخوف من الفضيحة. كثيرون يختارون الصمت، ليس لأنهم لا يحبون ابنتهم، بل لأنهم يخشون مجتمعًا يجلد الضحية قبل أن يجلد الجاني. صمتهم يتحول – دون أن يشعروا – إلى ختم صامت على براءة القاتل، وإلى رسالة مرعبة لكل امرأة تعيش تحت سقف خطر: أنت وحدك.

ثم يأتي المجتمع، ليكمل الحصار. حين يسمع الناس أن زوجًا قتل زوجته، يكتفي بعضهم بابتسامة ساخرة وجملة جاهزة: “اللِّي ما يدير شي ما يجيه شي”. جملة تبدو كحكمة، لكنها في الحقيقة حكم بالإعدام على الحقيقة ذاتها، إذ تجعل من القاتل بطلاً، ومن الضحية مجرمة، ومن الجريمة قدَرًا طبيعيًا لا يستحق حتى النقاش.

هكذا، تجد المرأة نفسها محاصرة بثلاثة جدران: جدار قانون يحمي القاتل، وجدار أهل يختارون الصمت، وجدار مجتمع يبرر العنف باسم الشرف أو القدر. وفي النهاية، تُدفن قصتها معها، إلا من بقايا دم على الجدران، وأصوات همس في الزوايا، وعنوان صغير في صحيفة… قبل أن تُنسى.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :