صلاح الدين: الإعاقة و السجن نقطتا تحول في حياتي

صلاح الدين: الإعاقة و السجن نقطتا تحول في حياتي

قصة صحفية : عبدالمنعم الجهيمي

تعد تجربة السجن نقطة تحول في حياة أي إنسان، فهي إما أن ترفعه وتعيد تكوينه من جديد، وإما أن تزيد سواد نفسه وتجعل منه إنسانا غير سوي، ويختلف هذا طبعا باختلاف ظروف وسياقات السجن وباختلاف أيضا السبب الذي سجن به الإنسان وقضى سنوات من عمره في هذا المكان.

هذا ما أيقنته أو جال في ذهني وأنا أستمع لقصة الشاب صلاح الدين، فهو لم يكن سجينا وحسب بل هو من ذوي الإعاقة، فقد قطعت يده في حادثة قديمة أورثته إعاقة دائمة ترافقه مدى الحياة، تبعها سجنه عدة سنوات بسبب مشكلة واجهته، فاجتمعت عليه الإعاقة وفقد الحرية لسنوات، هي السنوات التي تعلم فيها الكثير وغيرت فيه نفسه وأضافت له تجربة كان لها عميق الأثر في مسيرة حياته إلى اليوم.

يجلس صلاح الدين على الدرج أمام إحدى المحلات التجارية بجانب معداته ويمسك بأسلاك كهربائية يلفها بيد واحدة وبمهارة تفوق ما نعهده عند فنيي الكهرباء عادة، وبادرنا بالحديث عن استغرابنا من مهارته، وقال ضاحكا: تحسابوني بنجيب حد يساعدني!!

هززت رأسي موافقا لحدسه، وسألته عن قصته وحكايته مع الكهرباء.

صلاح الدين شاب في منتصف الثلاثينات من عمره يعمل كهربائيا مستقلا، يختص بتوصيل الكهرباء داخل المنازل والمحلات التجارية وغيرها، كما يقف على صيانة الأعطال الكهربائية ومد الأسلاك المنزلية وتركيب الخرائط الكهربائية في المصانع والمؤسسات الكبيرة، وهو يعول أسرة مكونة من زوجته وطفليه، إضافة لوالدته وإخوته وبقية الأسرة.

يقول صلاح إنه امتهن حرفة الكهرباء منذ أكثر من ستة عشر عاما، عمل في أول سنواتها في توصيل العديد من الشبكات الكهربائية المنزلية في العديد من المؤسسات والمباني والمنازل داخل سبها، فقد ساهمت في توصيل الكثير من الشقق التي وقع صيانتها عام2008، وتوصيلات كهربائية بمبنى قاعة الشعب خلال ذات العام، كان عملي متواصلا بشكل ممتع بالنسبة لي كشاب في مبتدأ حياته العملية.

ولكن الحرب التي شهدتها ليبيا خلال العام2011 كان لها أثر مختلف عليّ، فقد قل العمل ولم يعد كما كان، وبدأ التيار الكهربائي في الانقطاعات المتكررة وتعرقل عملي بشكل كبير، فصرت أخرج قليلا وفي أحيان كثيرة يتوقف عملي بسبب انقطاع الكهرباء، وفي إحدى المرات تعرضت لإصابة عمل بليغة تسببت في بتر يدي، وكانت تلك أكبر مصيبة لم أتخيل أن أتعرض لها، فكل حياتي ومهنتي قائمة على عمل يدي، وها هي تقطع وسأضطر للحياة بدونها، ولا أعرف ما الذي سألقاه أو كيف سأدبر أمري.

لم تمض أشهر على هذه الحادثة حتى تعرضت لمشكلة واختلاف شديد، ولا أعلم كيف تطورت الأحداث بسرعة ووجدت نفسي سجينا في إحدى سجون مدن الشمال، وهنا بدأ فصل جديد في مسيرتي، فأنا لا أعلم كيف سأعيش فترة السجن ولا كيف سأتدبر أمري داخله، مررت بفترة اكتئاب رافقتني عدة أشهر قبل أن أتكيف وأتعايش مع ظروف السجن.

مع الوقت صرت أتعرف على المساجين أكثر واقتربت منهم وبدأت أستمع لقصصهم ومعاناتهم، كما صرت قريبا من الموظفين والسجانين، ومع الوقت بدأت الأمور أمامي تنجلي إلى وضع أكثر هدوءا، وصار أمامي أن أتعلم من تجربتي وأكون مفيدا لنفسي ولكل من هم حولي من المساجين، كان بعضهم بريئا أو يرى أنه بريء وهم أكثر من يعانون أجواء السجون، ويحتاجون المزيد من الوقت حتى يتقبلوا وضعهم الجديد، وبعضهم كان يشعر بالندم لما قد ارتكبه في الخارج ويتعزز شعوره بالندم مع طول المدة، ولكن في نفس الوقت كان منهم من لا يبالون ولو أتيحت لهم الفرصة لعادوا إلى ذات مشاكلهم.

مرت سبع سنوات في هذه اليوميات التي صارت من تفاصيل حياتي، قصص وأناس جديدة وأناس يخرجون، مع كل عيد تتجدد الآمال لدينا في عفو قد يشملنا، ترقب للأخبار ومتابعة للأوضاع، في السنة السابعة توج ترقبنا وانتظارنا ونالنا عفو مكنني من الخروج من السجن لأول مرة، وجدت بعض أهلي في استقبالي وقفلت عائدا إلى مدينتي سبها، لا أنوي على شيء إلا التجول في شوارعها ومشاهدة لمة عائلتي حول أمي من جديد.

كان أول تحدٍ واجهته بعد عودتي هو العمل وكسب مصدر للعيش، فعملي في الكهرباء كان هو مصدر الدخل الوحيد لي، وبيد واحدة قد لا أتمكن من العمل مجددا، لكن أدركت أن ما أفعله بيديّ الاثنتين قد يمكنني فعله بيد واحدة، وهو ما بدأت فيه فعلا فصرت أتدرب على إنجاز بعض الأعمال المنزلية الكهربائية بيد واحدة، واستغربت حين أدركت القدرات التي يمكنني إنجازها بيد واحدة في ذات العمل، ولم أتأخر كثيرا فعدت للعمل وبدأت مع الأقارب والجيران والمعارف، وكنت لا أتخيل هذه القدرة وهذا الإقبال من الناس على العمل معي.

تحسنت والحمدالله الكثير من ظروفي وتمكنت من ادخار الدخل وانتظم عملي ونجحت في إكمال صيانة منزلي وتزوجت خلال سنتين من عودتي للعمل، تميزت والحمدالله عند الكثير من الناس في منطقتنا، وصار بعضهم يفضلني ويفضل التعامل معي رغم إعاقتي، في الحقيقة كنت أنجز الأعمال بشكل أسرع من غيري من الفنيين المحليين، كما أني لا أتقاضى أجري إلا بعد أن أنجز عملي كاملا وتقع مراجعته من صاحب المنزل.

لم تكن الإعاقة والسجن إلا إضافة في تجربتي وتكويني، دائما أقول إن صلاح الدين قبل الإعاقة والسجن هو مختلف تماما عن صلاح الدين بعدهما، الأزمات والكوارث هي مسبار ومقياس ووسيلة لتقوية شخص الواحد فينا، وعندما تتقن التعلم وتحسن الصبر وتعرف وتؤمن بقدراتك ستكون الإعاقة ميزة لا عيبا، وسيكون نقصك في شيء من جسدك هو الكمال في روحك.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :