قراءة د. عبد الحكيم المالكي.
مدخل نظري :
تداول موضوع الصورة على مدى التاريخ الطويل للنقد الأدبي، عديد الدراسات، ذات الجذور المتباينة أو المختلفة أو المتضادة (أحيانا)، وكانت باستمرار مادة تطرح عبرها الإيديولوجيات والرؤى المختلفة، ذلك إن الإنسان وهو يسعى للتبليغ في كافة نشاطاته الإنسانية، يوظف الصور باعتبار قدرتها على تمثيل مكونات واقعية تقترب أو تبتعد عن المرجع.
ونحن هنا إذ نبحث من خلال المحدد الرئيسي للندوة ( ملزمون) على أن نتعاطى مع الصورة انطلاقا من علاقتها (بالشخصية/ المرأة) من جهة، وبالسرد النسوي –أو السرد الذي تكتبه الأنثى بعبارة أدق- من جهة أخرى.
ذلك أن تحديد (صورة المرأة) كمحور للاشتغال، يفرض محددات لا يمكن التملص منها، إذ يخرجنا ذلك من الصورة ذات البعد البلاغي بمفهوم أهل البلاغة ، التي تركز على العلاقة بين المشبه والمشبه به ووجه الشبه، وعلاقات الجزء والكل بينهما، لخلق الدلالة ذات البعد البياني، كما لن نشتغل على الصورة انطلاقا من مستوى الممارسة السردية الذي سبق أن اقترحناه في دراسات سابقة، حيث يتكون هذا المسار من السرد والوصف، وعلى مستوى الوصف نجد الصورة الحواسية (متحركة أو ثابتة) ونجد الارتباط الوصف المقارن. ولكن سنقترب هنا من الصورة بمفهومها السيميائي، حيث الصورة ” وحدة محتوى حين يكون لها ما يوافقها على مستوى عبارة السيموطيقا الطبيعية باعتبارهما مجموعتين دالتين، وهذا يعني أن وحدات مثل السيارة أو جرة ذهب تمثل صورة انطلاقا من أنها تمثل استثمارات دلالية، يمكن أن تمنح حجما دلاليا لعناصر تركيبية”.
وتعرف اشتغالات هذه المدرسة (مدرسة باريس السيميائية) التصويري بأنه يؤشر على مكون تشمله الدلالة الخطابية ، ويرتبط هذا المكون من جهة بالصورة، ومن جهة أخرى بالمسار التصويري، حيث المسار التصويري هو البعد الدينامي لظهور الصور.
سيكون بحثنا هنا منصبا على الشخصية وسنحاول أن نحصر المسارات التصويرية وأوضاع الشخصيات التي يتم تصويرها بشكل فيه بعض تحرر من القسريات التي تفرضها السيميائية المميزة بتركيزها المستمر على التحولات الحاصلة من البعد المحايث إلى للتجلي ، ولكن من خلال ما عرفته السرديات: بسرديات الحكاية باعتبار أن موضوعنا يحيل بشكل أو بأخر للحكاية، ذلك انه عند الرغبة في الحديث عن الكاتب لا يمكن ذلك إلا من خلال مستوى الحكاية من جهة، ومستوى النص من جهة أخرى، إذ الحكاية من خلال اتجاهات أحداثها الرئيسية تؤشر على البعد العميق لوعي الكاتب بينما المستوى النصي يعد إعلانا مباشرا عن توجهاته.
هنا سنشتغل على الصورة منطلقين من كون الصورة هي تمثيل سردي (داخل النص) السردي على مستوى الحكاية، حيث نتابع فيه طبيعة العلاقات بين الشخصيات وسيكون تبئرنا الأكبر لشخصية المرأة، وكيف تحقق حضورها في كافة مراحل حكاية الرواية.
صورة المرأة سنشتغل عليها في حال كان الراوي (أنثى أو ذكر) وسنبحث في ذلك منطلقين من الراوي عندما نتحدث عن الحكاية ومن الكاتب(ـة) عندما نتحدث عن المستوى النصي ، ذلك أن ثيمة (صورة المرأة في كتابتها) لا تجد صدى كبيرا في السرديات التي ننطلق منها، باعتبار أن الكتابة في رأينا ووعينا لا تتجزأ لكتابة (امرأة / رجل) إلا في حال دخلنا من المضمون أو الإسقاط الخارجي الاجتماعي والتاريخي .
سنتجنب الخلط المعتاد بين الكاتب والراوي والشخصية، من خلال الفصل الذي تمارسه السرديات، حيث الكاتب لا يكون موجودا إلا على المستوى النصي من خلال العتبات والعناوين والتفاعل النصي بأنواعه، بينما الراوي على مستوى الخطاب في إطار العلاقة بينه وبين المروي له، والشخصية سنجدها على مستوى الحكاية ضمن مكونات الحكاية: الحدث، الشخصية، الزمان، المكان.
2-3-1 مدخل
في سرد تواتري تأملي، وفي منطقة بين الرواية واللارواية، وفي كتابة بين الواقعية والفنتازية، أنجزت عائشة الأصفر روايتها الرمزية (اللي قتل الكلب). نحن هنا مع رواية يتحقق حضور مميز لشخصياتها من خلال عديد التقنيات السردية الموظفة، وكذلك من خلال طبيعة النمط التواتري من السرد، كما نجد باستمرار فعل التناص مع الصوفي والفلسفي، مع تعدد خطابات، نتج عن وجود أكثر من حكاية تتحقق في ذات الوقت.
ظهرت الأنثى في هذه الرواية ضمن مربع شبيه بالمربع السيميائي من حيث قيمتها وقدرتها على الفعل، وقبل الدخول في هذه الرواية وصورة الأنثى فيها سنحاوله هان أن نفكك حكايتها (الرواية) لمكوناتها المتعددة حتى ندرك كيف مارس الراوي عبر عديد الأصوات السردية المتباينة اللغات تحقيق خطاب متماسك متناسق.
1) قصة الذي قتل الكلب.
2) قصة الضفدع الرمزية.
3) قصة الراوي والروح التي يخاطبها.
4) القصة الرئيسية للقرية وللغزاة الجدد القادمين.
2-3-2 حكاية الرواية
أولاً/ قصة الكلب :
يروي هذه القصة (المعلم (دنقلة) وهو الشخصية المركزية في الرواية ويمثل البطل النمطي التقليدي) عن جده لتلاميذه وهي تحكي كيف تحولت حياة قرية هادئة للدمار بسبب صمت أهلها وعدم ممارستهم لفعل تجاه انتهاكات الجيران.
الانتهاكات بدأت بقتل الكلب وعندما ذهبوا للحكيم طلب منهم قتل قاتل الكلب، امتعضوا من هذه المشورة ورفضوا أن يقتلوا رجلا بكلب. المسألة تطورت فأهل القرية المجاورة قتلوا لهم ناقة، وعندما عادوا للحكيم طلب منهم قتل قاتل الكلب أيضا، ولكنهم حتى هذه المرة لم يقوموا بفعل، فكان في المرة الثالثة أن قتلوا أحد رجالهم، وعندما عادوا للحكيم للمشورة طلب منهم الحكيم ذات الطلب القديم الذي لم يستسيغوه أبداً، وهو قتل قاتل الكلب، وعندما لم يفعلوا شيئا، هلكوا.
هذه القصة تمثل شيء أقرب ما يكون للنص السابق بالنسبة لنص لاحق، هو الحكاية الرئيسية للقرية وللتجار متعددي الجنسيات القادمين.
ثانيا/ حكاية الضفدع:
وهي حكاية قصيرة صور من خلالها الراوي في شعرية عالية طبيعة التهام الكائنات لبعضها البعض حيث نتابع ضمنها كيف مارس الضفدع التهام الفراشة.
ثالثا/ حكاية الروح المخاطبة
منذ بداية الرواية ونحن نتابع حوارية مميزة عبر فعل عنونة داخلي يخترق لحمة النص الرئيسي (حكاية القرية) ويتم بين الراوي والروح التي يخاطبها، هذه الروح من خلال طبيعة الحوار تبدو قريبة لأن تكون أنثى. هل تحيل تلك الروح لدنقلة ؟. لا بالطبع إننا هنا مع حديث عن (الواعدة) التي سنتعرف من خلال السرد أنها بِنْت كبير القرية ومحبوبة دنقلة الشخصية المركزية هذه الأنثى (الواعدة) كانت تبدو أقرب ما تكون للشهيدة أو للروح أو للذات المرفرفة.
لنتابع هنا كيف تمّ تصوير حادث موتها ولنتذكر أن هذا المقطع (ب) حضر في بداية الرواية وفي نهايتها أيضا :
“أ)…وأنا أبحث عن موعودتي وسط الجموع!..
وأمام مرأى الجميع وجدتها.. (ب) عُلقت من أثدائها تتدلى من حبل شد لأعلى، مقيدة اليدين، موثوقة القدمين، تدلى عنقها . خلفها حانيا ظهرها”
إننا كما نرى أمام صورة فيها اسطره للأنثى من خلال راوي ذكر حققت حضوره كتابة أنثى.
رابعا/ حكاية أهل القرية (حكاية الرواية الرئيسية)
هذه القصة هي قصة القرية التي ينتمي لها المعلم دنقلة، ويمثل احد الشخصيات المركزية فيها، حيث يمثل صوته الصوت المناوئ لكبير القرية والد “الواعدة”، هذا الوالد متزوج من عِدة نساء، أحدهن والدة الواعدة المهملة، وكذلك الزوجة المقربة حورية.
كما نتعرف ضمن السرد على شخصية العرافة المقربة من حورية والتي تقضي لها ما تتوهم أهميته من قضايا تتعلق بعالم الأساطير الذي تعيشه.
كما نتعرف من خلال بدايات زيارات التاجر متعدد الجنسيات (ما يبدو قريبا من القطب الأمريكي) الذي يزور القرية ليبيعها بضائعه، وكان قد تخلص من رفيق تجارته القديم، هذا التاجر يسمى عادة (متعدد الجنسية) بحيث يحيل على اقتصاد اليوم الرأسمالي، وعلى العلاقة الحاصلة بين العرب والأمريكان، بينما يمثل رفيقه الذي تخلص من شراكته (ما يبدو قريبا من صورة) الإتحاد السوفياتي وسقوطه، ليبقى هذا التاجر هو القطب الواحد في مواجهة عالم أهل القرية التعساء.
النظام في القرية صارم وقاس حيث هناك سجون وتعذيب وهناك غياب للعدالة، وفقر، وهناك خصي للرجال داخل السجون، إننا نتابع صورة أقرب ما تكون لحالة الاستبداد السائدة في أوطاننا العربية حيث المواطن محتقر ولا قيمة له.
العلاقة الناشئة بين دنقلة والواعدة تتطور نحو الإيجابي من خلال التحول الذي سنلمسه يحصل على شخصية الواعدة التي عادت للتعليم وصارت اهتماماتها مختلفة عن السابق بينما سيكون حال القرية على العكس من ذلك، سنتابع كيف مارس التاجر سيطرته بهدوء على القرية خاصة مع ظهور ورقة الأنثى المسماة (ملوّنة) التي سيطرت على لب كبير القرية.
دنقلة بدأ في مشروع بناء السد ودعا كبير القرية لعمل مشاريع حفر أبار بها سوائل مسمومة لحماية القرية من المعتدين (يبدو هذا رمزيا أقرب ما يكون للسلاح النووي)، ولكن كبير القرية المرتمي في أحضان التاجر اخبر التاجر بمخططات دنقلة فبدأت خيوط الموأمرة للقبض عليه.
عندما هرب دنقلة للجبال وجد كثير من الرجال هناك من بينهم حفيد صاحب الكلب المقتول، هناك في الجبل بدأ دنقلة يخطط للعودة واكتساح العدو، بينما كان التاجر متعدد الجنسية، يحاول من خلال مساعدة رفيقته الملونة،الفوز بالواعدة زوجة له.
الكبير ترك خيمته السابقة وتوجه ليعيش في بيت بناه له التاجر وصار خاتما في أصبعه وأهمل زوجته حورية التي كانت تصورها الواعدة (ربيبتها) كمحل لفك أزمات والدها الجنسية.
مع السرد نتابع قصة الهازئ الذي فجر البوابة وهو تلميح لما أصبح عليه وضع الدول العربية الآن في ظل الحركات المجاهدة المختلفة، كما نتابع الحلم الذي رأى فيه دنقلة الواعدة معلقة من أثدائها بحيث ترتبط لدينا قصة الروح مع قصة القرية وما يحصل فيها. من خلال الجبل وتلاميذ دنقلة الذين ينقلون له الأخبار سيكون هناك خيط أمل للتغيير.
2-3-3 صورة الأنثى في الرواية:
كانت عدسة السرد في الرواية، وكان الراوي باستمرار يرصد التحولات هنا وهناك، وكانت عدسة السرد تتماهى أحيانا مع بعض الشخصيات، فتخرج الصورة ملونة بوعي تلك الشخصيات، ولكنها غالبا تخرج من وعي راو مجهول شديد السخرية.
كانت الشخصيات النسائية الأكثر حضورا في الرواية، حيث نجد: الواعدة بنت كبير القرية، وزوجته حورية والعرّافة والملونة (سكرتيرة التاجر متعدد الجنسيات). وخلف هذا المكون الرباعي كان هناك حضورا مستمر وغير مباشر لتلك الروح المخّاطَبة بعناوين تخترق لحمة النص.
1) الواعدة: ظهرت الواعدة كغالب شخصيات الرواية بصورة خاصة سوف نطلع عليها ، ثم حدث لها تحول، فكانت صورتها تتغير من خلال مواقفها غالبا وبعدها الداخلي الذي يشهد تغيرات حتى أصبحت في أخر الرواية متماهية مع الروح، أي أصبحت شخصية شبه أسطورية بل صارت هي مدار الصراع كله، بينما بقت علاقتها بدنقلة ثابتة لا تتغير. هنا نتابع الحوار الحاصل بين الواعدة وبين دنقلة:”…أنا جسد يراه القريب عاراً ويراه البعيد متعة”
سنتابع هنا صورة الواعدة واهتماماتها في بداية الحكاية، ثم تحولها مستفيدة من وجودها وحيدة، و الفضائيات التي دخلت للقرية قريبا :
“بينما الواعدة تنتهز فرصة خلو البيت لتتمتع بدقائق مسروقة ببرنامج غنائي مختلط”
تحدث التحولات التي تنتاب أهل القرية كلهم، ولكن بالنسبة للواعدة كانت التحولات إيجابية غالباً، حيث نجدها تسعى للتعليم لتتخلص من براثن العجز، والحاجة للآخرين، ونجدها تحاور (الملونة) أنثى الأخر متعدد الجنسيات بندية :
” صحيح يعذبني واقعي.. نظرة أهلي ووصاية أقاربي..ثقافتي تقيدين ولكنها تحميني”
إننا كما نرى أمام شخصية تعبر عن رؤية ما تتضاد مع رؤية أخرى قادمة وهي بذلك تنضم مع دنقلة باعتبارهما قريبين من بعضهما البعض في الفكر والرؤية.
وضمن التحول سنشهد كيف تبتعد الواعدة عن أنثى الغرب التي تسعي لجعلها من سبايا التاجر متعدد الجنسيات. إن هذا التضاد على مستوى رمزي يرسم السبيل (الذي تراه الكاتبة) للمرأة العربية للخروج من واقعها المزري بعقل واتزان.
في أخر النص سنجدها ضمن الحلم الذي يعيشه دنقلة قد أصبحت الروح التي كانت ذاته العميقة تخاطبها طول الرواية في المقطع الذي سبق أن ادرجناه في الدراسة : ( وأن أبحث عن موعودتي)
صورة الملونة أنثى الأخر:
تظهر الملونة كشخصية نمطية تمثل مجتمع الغرب بكل انحطاط الإنسان فيه (كما ترسمها الرواية) فهي أداة للحصول على اللذة والقيم بالنسبة لها أضحوكة قديمة، وهي جزء من ترس كبير يدور أسمه الربح. لهذا سنجدها تمارس أدوارا قريبة من عالم الجسد غالبا، فهي تمارس دورها كسكرتيرة وعاهرة لصالح التاجر، ولكن في الوقت نفسه هي تمارس ذلك انطلاقا من خلفيات ثقافية تستند لها. لنتابع كيف ظهرت من وعي كبير القرية وهو يزور التاجر متعدد الجنسية في مكتبه:
“وأما الوردة الملوَّنة فكل شيء فيها مدهش، كل ألوانها وضعتها لتتمشى مع ذوق أهل القرية..
أبرزت العينين جيدا وحدَّدت الشفتين وملأتهما بلون شهي ولمعة أشهى…”
بينما من خلال البعد الغرائبي سنتابع كيف تحولت صورتها من خلال وعي الواعدة (ونتذكر قبل ذلك أنها كانت ألتقتها سابقا) وكان الأمر بينهما في البداية وديا ثم أصبحت تدرك أنها جزء من لعبة السيطرة بل ربما هي الفارس الحقيقي لكل ذلك.
“وبدأت خطوط تظهر في السقف فوق التاجر.. بدأت تتضح رويداً رويداً بألوان سرير الملوَّنة..الأزرق المطعم بالأبيض، إنها صورة الملونة ظهرت بوضوح تعتلي ظهر التاجر منتشية .. تضحك وعيناها تلمعان كساحرة..بدت وكأنها تضغط على التاجر واللسان الأحمر يتدلى.. منخاس تضغط به كتفيه”
3) صورة حورية:
تبدو حورية الزوجة الأصغر لوالدها مثالاً للعنة وللتهميش، هذا التهميش يطالها بشكل مباشر من خلال كلام الشخصية (الواعدة) حولها، أو من خلال تصرفاتها، وأفعالها التي تمارسها وإيمانها المطلق بالغيبيات والشعوذة، وغيرها مما جعلها مع مضي السرد تتحول لتصبح لعبة في يد العرّافة. لنتابع هنا صورة حورية من خلال حوار الواعدة مع دنقلة:
“ردّت: أخشى أن أصبح كحوريَّة أبي التي أصبحت مرحاضاً يبول فيه عندما يتأزم ذيله.. أو تثيره حورية جديدة.. صارت خادمة ومرحاضاً”
إن حورية على طول النص ظهرت مثالا للمرأة السطحية التي تمارس دورها المطلوب منها في إطفاء شهوة الكبير، وباستثناء ذلك ليس لها أي قيمة تذكر. التحول الحاصل والذي ظهرت من خلاله صورة مختلفة لحورية هو تحول نحو المزيد من السوء باتجاه العرّافة التي صارت تعتقد أكثر في قدراتها وقوة فعلها.
4) العرَّافة:
كانت العرَّافة رفيقة نسوة القرية اللاتي لا يتحركن إلا انطلاقا مما تراه لهن من خلال الأبعاد الأسطورية التي تطرح مع حضورها (العرّافة) كانت غالبا تقوم بدور محايد في النص فهي بالرغم من كل القوى المسندة إليها تتحرك بهدوء متماهية مع الواقع الموجود ولا ترغب في تغييره. التحول الأكبر الحاصل ضمن الرواية كان كما تابعنا على مستوى العلاقة بين الواعدة والملونة أنثى الغرب متجهة وعلى مستوى العلاقة بين الواعدة وبين صاحبها دنقلة الذي صار يرى فيها روحا تسري في الوجود وبذلك صارت لها قيمة أكبر من التصور، ذلك أنها صارت الموضوع الرئيس المرغوب على طول النص، ذلك الموضوع المخفي الذي أنتج تلك العلاقة المعقدة بين دنقلة الذي يمثل الشخصية الرئيسية وأحلامه.
سنجد العلاقة تتشكل من خلال المربع التالي:
شكل (1) يوضح طبيعة العلاقة بين الشخصيات النسائية في بداية الرواية
إن العلاقة السابقة سنجدها تتتحول لتصبح بهذا الشكل حيث يتحقق التضاد بين الواعدة التي امتلكت المعرفة التي تسلحها ضد جهلها السابق لتواجه أنثى الأخر وتصبح الأنثى بهذا الشكل فاعلة في القضايا الكبرى لامتها ووطنها.
شكل (2) يوضح طبيعة العلاقة بين الشخصيات النسائية بعد حدوث التحول وتحرك السرد
هذا كل ما يمكن أن يقال في حدود المحور الرئيسي للدراسة (صورة المرأة في كتاباتها) عن صورة الأنثى في هذه الرواية، التي كان الراوي في مراحل طويلة منها ذكر، ولكن لم نعر ذلك اهتماما لأنه كله يقع خلف رسم الروائية الأنثى. أيضا لو أردنا الاشتغال من جوانب أخرى سنجد في هذا النص مادة جيدة لدراسة تقنيات السرد التواتري، كذلك العلاقة بين الراوي والمروي له كانت مميزة من خلال تعدد مستويات الخطاب، كما نجد الرواية مادة مناسبة للاشتغال على الصيغة السردية وكذلك مادة مناسبة لدراسة التفاعلات النصية حيث الرواية كانت تحتوي بالإضافة لكونها حكيا تفاعلات نصية مستمرة مع المدونة الفكرية والثقافية وغيرها السائدة زمن الكتابة، كما نجد الرواية مادة مميزة لدراسة تداخل الخطابات حيث نجد ضمنها بالإضافة للخطاب السردي العادي الخطاب التأملي و الخطاب الغرائبي والعجائبي وفي قلب كل ذلك كان هناك حضورا مميزا للخطاب الساخر الخفي الذي كان يؤطر السرد.
أخيرا
في الرواية الثالثة (اللي قتل الكلب) لعائشة الأصفر نجدنا مع الحركة الخطابية المميزة ومع إتقان الكاتبة للخطاب التأملي ومع اختراق الحكايات المتعددة للتداول السطحي والمعتاد في الكتابات الروائية الرائجة. هذا يترافق مع وجود تقنيات التواتر والاشتغالات المميزة على الصيغة السردية. الرواية تناوش مواضيع كانت بعيدة عن المرأة حيث نجد رؤية مختلفة لقضايا الصراع مع الأخر ونجد لأول مرة دنقلة نموذج البطل العربي المسلم كل ذلك مع حضور مكونات فلسفية ودينية كانت يزخر بها النص، بالإضافة للموضوع الرئيس الصراع مع الغرب ( أمريكا تحديدا) والذي لا نكاد نجد له أثر في الكثير من الروايات الأخرى، على الرغم من كونه موضوع العصر بلا منازع.
(هذه الدراسة جزء من مشاركة د.عبد الحكيم المالكي في ندوة دعي لها من قبل اتحاد كتاب تونس 2010م بعنوان صورة المرأة العربية في كتاباتها.)