صياغة الدستور

صياغة الدستور

  • محمد عمر أحمد بن اجديرية

يعتبر الدستور، أحد أهم أركان الدولة المدنية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، ليس لأنه المحدد العام لشكل وماهية الدولة على المستوى السياسي، بل لأنه الضامن للحقوق الفطرية والمكتسبة للمواطنين والمحقق لشكل الدولة الذي يرتضيه غالبية الناس، كإجماع وطني، من هنا كان الدستور المرجع الأعلى والفيصل والمحدد للعلاقات بين المواطنين داخل الدولة، كما أنه المحدد لماهية وصلاحيات كافة مؤسسات وأجهزة الدولة، وتنعدم قيمة نصوص الدستور إن لم تتحقق علوية القانون (أي سيادة القانون)، لذا فإن الشعوب والأمم الحديثة تعتني بصياغته، وتحرص على توافر كافة الاشتراطات الموضوعية ليأتي الدستور معبرا عن تطلعات وآمال الناس في التحرر والنهوض وصيانة وضمان كافة حقوق مكونات المجتمع دون إستثناء، مع التحسب لمشاكل وإشكاليات قد تتواجد مستقبلا، والإستشراف لوضع النصوص القانونية الملائمة لحلها، لتلافي أزمات دستورية وإشكاليات سياسية مستقبلية، قد تفضي إلى أزمات حادة، تخلخل الوحدة الوطنية، وتفجر الصراعات الكامنة وراء التعقيدات السياسية.ودرجت العادة أنه في حالة الحرب الأهلية أنه لا تتم صياغة الدستور في المرحلة الإنتقالية ويترك ذلك إلى مرحلة الإستقرار، ويستعاض عن الدستور في المراحل الإنتقالية التي تعقب الحروب الأهلية بصياغة إعلان دستوري مؤقت ينظم المرحلة الإنتقالية، حتى يتم تحضير المجتمع لمرحلة الاستقرار التي يصاغ في بدايتها مشروع دستور يتم استفتاء الناس عليه، وفق المتعارف عليه في العرف السياسي.الكثيرون ممن يصرون عن حسن نية على ضرورة الاستفتاء على مشروع الدستور الذي إنتهت الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور في ليبيا من إعداده في صيف العام 2017، يضربون مثلا بتونس التي صاغت دستورا في نهاية المرحلة الإنتقالية تمت المصادقة عليه من قبل البرلمان التونسي يوم 26 يناير 2014، ليكون بداية مرحلة الاستقرار، هنا فات هؤلاء أمور جوهرية، تجعل المثل التونسي يؤكد المعطيات السياسية المتعارف عليها بهذا الخصوص، أبرزها :1. أن تونس لم تكن في حالة حرب أهلية، بل كانت تمر بحالة إنتقال سياسي، مما يعني أن الدولة على المستوى المؤسساتي كانت مستقرة، عكس ليبيا التي شهدت حروب أهلية لما يقارب العقد من الزمن، ترتبت عليها العديد من الاشكاليات والتعقيدات التي تحول عمليا وإجرائيا دون القدرة على إجراء استفتاء سليم وفق المعايير.2. لم تلجأ تونس إلى استفتاء الشعب، واكتفت بإعتماد الدستور من قبل نواب الشعب في البرلمان، لأن لدى تونس برلمان منتخب وشرعي، عكس ليبيا التي يوجد بها ثلاث مجالس نيابية وثلاث حكومات تتنازع الشرعية، وتدعي كل منها أنها ممثلة للشعب، مما يعني ضمنا أن ليبيا ليست مستقرة، وعمليا منقسمة إلى عدة كيانات.3. جرى العرف السياسي، بعدم صياغة الدستور أثناء الحروب الأهلية أو في المراحل الانتقالية، لأن أي دستور يكتب في ظروف الحروب الأهلية، سيكون إقصائي وغير معبر عن كافة مكونات الشعب الليبي، وهذا ما ينطبق حرفيا على الحالة الليبية، فبغض النظر عن نصوص وفحوى مسودة الدستور(التي نرى أنها جيدة في معظمها)، إلا أن مندوبي ما يزيد عن نصف الشعب الليبي لم يشاركوا في صياغتها، بحجة قانون العزل السياسي المعيب، فهذه المسودة أعدها بالأساس طيف واحد من أطراف الصراع في ليبيا، وهو الطيف الفبرايري، أي أن أنصار النظام السابق، وأنصار الفدرالية، وأنصار النظام الملكي لم يكونوا ممثلين في الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور الليبي.4. حتى المكونات الثقافية الليبية مثل الأمازيغ والتبو والتوارق، مثلهم فقط الطيف الفبرايري في الهيئة التأسيسية.5. بالمقابل نجد أن العديد من أطراف فبراير نفسها ولا سيما كتلة الشرق الليبي ممثلة ببرلمان طبرق والحكومة المؤقتة وقوات الكرامة، ليسوا راضيين على مسودة الدستور، ويطالبون باستمرار ضرورة إعادة صياغتها.هذه العوامل وغيرها، تجعل من الدعوة والاصرار على الاستفتاء على مسودة الدستور المعد صيف 2017، دعوة مشبوهة، وكلمة حق أريد بها باطل، فالصحيح أن يتم العمل بوثيقة الإعلان الدستوري بمواده 37، الصادر أواخر العام 2011، والذي تم تعديله عام 2012 من قبل المجلس الانتقالي خلال المرحلة الإنتقالية، وأن يتم الشروع مع نهاية المرحلة الانتقالية في تشكيل هيئة تأسيسية من فقهاء القانون الدستوري الليبي – دون الحاجة إلى المحاصصة الجهوية – لصياغة مشروع دستور لليبيا يتم طرحه على نواب الشعب المنتخبين في البرلمان دون الحاجة الي استفتاء الشعب عليه.هذه الايام خرج علينا بيان موقع من 157 شخصية ليبية من الطبقة الثانية من متصدري المشهد العام، الباحثين عن فرصة، يحملون البعثة الأممية مسئولية تأخير الاستفتاء على مسودة مشروع الدستور، ويطالبون الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتيريش بالتدخل بشكل شخصي لتذليل الصعاب والعمل على التسريع من عملية الاستفتاء على الدستور! دعوة تأتي في سياق الوهم الذي يسوق له الكثيرون عن جهل بأبجديات العمل السياسي، وكأن الأمم المتحدة هي الحاكم الفعلي لليبيا، فأمر كهذا ينبغي وضعه في سياقه الصحيح، وأن تتم مناقشته بيننا كليبيين، ويحاول كل طرف إقناع الآخرين بوجهة نظره، أما أن يتم عرضه وتوجيهه مباشرة الي الأمين العام للأمم المتحدة ومخاطبته وكأنه الحاكم العام لليبيا، ففيه أسفاف وتردي وإنحطاط نربأ بنخبنا السياسية والثقافية أن تنساق ورائه دون تبصر.حفظ الله ليبيا من كل مكروه

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :