ماذا عن الاغلاق بسبب كورونا؟ لنبحث عن المعنى وليس عن السعادة

ماذا عن الاغلاق بسبب كورونا؟ لنبحث عن المعنى وليس عن السعادة

  • ترجمة عن الإنجليزية: الدكتورة رحمة بوسحابة

بقلم إميلي اصفهاني سميث*

أستاذة محاضرة بجامعة معسكر الجزائر

لماذا سيعيننا زرع التفاؤل المأساوي على تجاوز هذه الأزمة، لا بل والتطوّر من خلالها؟

لا تُشكّل جائحة فايروس كورونا تهديدا للصحة البدنيّة للملايين فحسب، بل وألحقتدماراً بالسلامة العاطفية والنفسية للناس حول العالم أيضاً، إذ تتزايد مشاعر القلق والعجز والحزن باعتبار أن الناس أصبحت تواجه بشكل متزايد مستقبلا مجهولا، فالجميع تقريبا تأثّربالخسارة.ويُظهر استطلاع قومي للرأي أجرته “مؤسسةعائلة قيصر” (KFF) أن ما يقرب من نصف كل الأمريكيين- 45 بالمائة – يشعرون بأن الفايروس التاجي قد أثر سلبًا على صحتهم النفسية.

ففكرة أن تموت وحيدا مع مرض تنفسي أمر مرعب، ومعرفة أن هذا ما يحدث لآلاف الأشخاص هنا في هذه اللحظة هو أمر لا يُحتمل، لقد فقدنا الكثير من الأرواح وتدمرت سبل المعيشة، وأصبح استخدام استعارات الحروب يشعرنا بالتيهوالانهاك، كما أن البنى الاجتماعية بدأت بالتلاشي ومعها أنماط الحياة التي كنا نعتبرها مسلّمات، لقد اصبح الآخر مصدر عدوى محتملة ونحن أيضاً، وصرنا نتحرك ملثّمين مع الحفاظ على تباعدنا.

ويثير هذا الوضع السؤال التالي: هل هناك ما يمكن أن يفعله الناس للتغلب على التداعيات العاطفية لهذه الفترة من الارتباك والتحديات؟ 

             كيف يتعامل الناس مع الشدائد هو الموضوع الذي اشتغلت عليهلسنوات بوصفيصحفيّة، وأجريتعلى مدى العقد الماضي، مقابلات مع عشرات الأشخاص حول تجاربهم مع القلق الشديد،كما أجريت بحثا أكاديميا في علم النفس حول القدرة على التأقلم مع المصائب، لتحديد الأسباب التي تجعل بعض الناس تنكسر جراء الأزمات، في حين يخرج آخرون من التجارب المرهقة أكثر قوة من ذي قبل.

          وما توصّلت إليه يلقي الضوء على كيفية حماية الناس لصحتهم النفسية أثناء الجائحة- وهو يقلب بعض الأفكار الشائعة في ثقافتنا حول الصدمة والسعادة رأسا على عقب-. وتجدر الاشارة هنا إلى أنه عندما ينظر الباحثون والأطباء إلى من يتأقلم بشكل جيد خلال الأزمات وحتى يتطوّر خلالها، فإن الأمر هنا لا يتعلق بأولئك الذين يركزون على السعي وراء السعادة ليشعروا بتحسن؛ بل بأولئك الذين يستطيعون بلورة موقف من “التفاؤل المأساوي”، المصطلح الذي قام فيكتور فرانكل Viktor Frankl-الطبيب النفسي من فيينا الناجي من الهولوكوست- بصياغته، ويُقصد به القدرة على الحفاظ على الأمل، وإيجاد المعنى في الحياة على الرغم من ألمها الذي لا مناص منه، والفقد، والمعاناة.

                وقد يكون من المفيد لفهم كيف يمكن للتفاؤل المأساوي أن يخدمنا أثناء الوباء أن نستحضر كيف تعاملت أمريكا مع هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية، وقد أفاد الناس حينها من ازدياد مشاعر الخوف والقلق واليأس، والتي كانتموهِنة للبعض أكثر من البعض الآخر. ولمعرفة الأسباب، قامت مجموعة من الباحثين بقيادة باربارا فريدريكسون  Barbara Fredrickson، وهي مختصَّة في علم النفس  بجامعة كارولينا الشماليّةUniversity of North Carolina في تشابل هيل Chapel Hillبدراسة مدى سعادة البالغين الصغار في الأسابيع التي تلت الهجمات، وأفاد الطلاب أنهم يشعرون بالأسى مثل غيرهم من السكّان رغم أنهم لم يفقدوا أيًّا من أحبائهم في 11 سبتمبر، ومع ذلك فإنّ البعض منهم كان أقل عرضة للإصابة بالاكتئاب من الآخرين، وما ميَّز هؤلاء الطلاب المرنين هو قدرتهم على العثور على ما هو جيد على العكس من الطلاب الأقل مرونة، ويفيد المرنون أنهم يعيشون مزيدا من المشاعر الإيجابية مثل الحب والامتنان.

إلّا أن هذا لا يعني أنهم كانوا مفرطي التفاؤل(“بوليانا” Pollyannas)، إذ أنهم لم ينكروا مأساويّة ما حدث وعبّروا في الواقع عن نفس مستويات الحزن والتوتر التي عبّر عنها الأشخاص الأقل مرونة، وتظهر النتيجة التالية بشكل متواتر في أبحاث علم النفس: وهي أنه بشكل عام، لدى الأشخاص المرنين ردود فعل سلبية شديدة تجاه الصدمة، وأنّهم يشعرون باليأس والتوتر، ويقرون بفظاعة ما يحدث، ولكنهم حتى في أحلك الظروف، يجدون بصيصًا من الضوء، وهذا ما يسندهم في النهاية.

ويمكّن تبنّي “التفاؤل المأساوي” الناس من التطوّر فعليّا من خلال المحن والشدائد، وليس مجرّد مساعدتهم على التحمّل .

                    لفترة طويلة،تبنى العديد من علماء النفس رواية الضحية حول الصدمة، باعتقادهم أن الضغط الشديد يسبب ضررًا طويل الأمد -وربما لا يمكن إصلاحه- على نفسية وصحة الفرد. وقد أضافت جمعية الطب النفسي الأمريكية عام 1980 “اضطراب ما بعد الصدمة” إلى الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية، ومنذ ذلك الوقت، تلقى اضطراب ما بعد الصدمة الكثير من الاهتمام في وسائل الإعلام، وبين الأفراد العاديين الذين يحاولون فهم ما يحدث للأشخاص في أعقاب أحداث الحياة المأساوية.

ومع ذلك، يدرك علماء النفس الآن أن نسبة صغيرة فقط من الأشخاص يصابون بالاضطراب الكامل، بينما في المتوسط، في أي مكان من العالم فإنه من نصف إلى ثلثي الناجين من الصدمات يظهرون ما يعرف بتطوّر’مابعد الصدمة’  بعد الأزمات. إذيكتسب أغلب الناس شعورا جديدا بالهدف، ويطورون علاقات أعمق، ويصبح لديهم تقدير أكبر للحياة، كما يذكرون فوائد أخرى.

وليست الشدائد نفسها هي التي تؤدي إلى التطوّر، بل كيفية استجابة الناس لها، ووِفقا لعالمي النفس ريتشارد تيديشي Richard Tedeschi ولورنس كالهون Lawrence Calhoun من جامعة كارولاينا الشماليةNorth Carolina في شارلوت،اللذين سكّا مصطلح ” تطوّر ما بعد الصدمة” في التسعينيات، فإن الأشخاص الذين يتطورون بعد أزمة ما، يقضون الكثير من الوقت في محاولة استيعاب ما حدث، وفهم كيف قامت بتغييرهم، وبعبارة أخرى ، يبحثون عن معنى إيجابي ويعثرون عليه.

   ويعرف ذلك فيأبحاث علم النفس الحديث، مع بعض الأسف، باسم “ايجاد الفائدة” التي يصفها السيد فرانكل بأنها “قدرة الانسان على تحويل الجوانب السلبية في الحياة إلى شيء إيجابي أو بناء بشكل خلّاق”. بالطبع، بعض الناس بطبيعتهم أكثر تفاؤلاً من الآخرين، لكن نجاح التدخلات النفسية مثل العلاج النفسي المتمركز حول المعنى-  الذي طوره الدكتور ويليام بريتبارت Dr. William Breitbart في مركز ميموريال سلون كيترينج Memorial Sloan Kettering للسرطان وزملاؤه لمساعدة المرضى الميؤوس منهم في التعامل مع الموت – يكشف أنه حتى أكثر الأفراد يأسا لديهم القدرة على إيجاد المعنى في أزمة ما .

وقد يبدو من غير المناسب دعوة الناس للبحث عن ما هو جيّد في أزمة بهذا الحجم، ولكن بحسب الدراسة تلو الدراسة للمأساة والكارثة فإن هذا ما يفعله الأشخاص المرنون، ففي دراسة أُجريت على أكثر من 1000 شخص، أفاد 58 في المائة من المستطلعة آراءهم أنهم استطاعوا إيجاد معنى إيجابي في أعقاب هجمات 11 سبتمبر ، مثل تقدير أكبر للحياة وشعور أعمق بالروحانية. كما أظهر بحث آخر أن الذين اكتشفوا الفائدة يتطورون ليس فقط من الناحية النفسية، ولكن أيضًا من الناحية البدنية،فعلى سبيل المثال، ظل الناجون من النوبات القلبية الذين وجدوا معنى ما في الأسابيع التي تلت حدوث أزمتهم ، على الأرجح بعد ثماني سنوات ، على قيد الحياة وبصحة أفضل من أولئك الذين لم يفعلوا ذلك.

             ولا يعني ذلك أن على الناس أن يواجهوا المحن بوجه مبتسم، يقول السيد فرانكل في الواقع وعلى وجه التحديد أن التفاؤل المأساوي ليس مثله مثل السعادة. وكتب في ذلك “بالنسبة للأوروبيين، فإن من خصائص الثقافة الأمريكية ينصح الأفراد ويطالبون أن مرارًا وتكرارًا بأن يكون سعداء، إلا أنّه لا يمكن السعي وراء السعادة بل يجب أن تأتي كنتيجة، أي أنه يجب أن يكون لدى المرء سبب لـ “أن يكون سعيدًا”.

وهو محق في قوله  هذا، ذلك أنه في الثقافة الأمريكيّة عندما يشعر الناس بالاكتئاب أو القلق، فإنه غالبا ما يتمّ نصحهم بالقيام بما يجعلهم سعداء ، فالكثير من قنوات استشارات الصحة النفسية المتعلقة بالأوبئة التي ترسل رسائل، تشجع الناس على إلهاءأنفسهم عن الأخبار السيئة والمشاعر الصعبة ، لتحديد وقت تواجدهم على وسائل التواصل الاجتماعي،  وكذا ممارسة الرياضة.

            ولست ألمّح هنا إلى عدم جدوى هذه الأنشطة، ولكن إذا كان الهدف هو التأقلم مع الجائحة، فإنها لا تؤثر بشكل عميق في النفس كما يفعل المعنى، ذلك أن الناس عندما يقومون بأشياء تجعلهم سعداء مثل ممارسة الألعاب أو النوم، يشعرون بتحسّن، لكن هذه المشاعر سرعان ما تتلاشى وفقًا لبحث أجرته فيرونيكا هوتا Veronika Huta من جامعة أوتاوا، وريتشارد رايان Richard Ryanمن جامعة روتشستر.

عندما يبحث الناس عن المعنى، فإنهم لا يشعرون بالسعادة غالبا، ذلك أن الاشياء التي تجعل حياتنا ذات معنى مثل التطوع أو العمل مرهقة وتتطلب جهدًا. غير أن الباحثين عن المعنى وبعد أشهر من ذلك، لم يشيروا إلى مزاجٍ سلبيٍّ أقل فحسب، بل شعروا أيضًا بأنهم أكثر “غنى” و “إلهاما”، وأنهم”جزء من شيء أكبر من ذواتهم”.

                 وعلى الرغم من مرور بضعة أسابيع فقط على بداية تأثير الوباء على الحياة في الولايات المتحدة، إلا أنني أرقب أشخاصًا يتبنون المعنى خلال هذه الأزمة، ففي القوائم الالكترونية الخاصة ببلدتنا، ينظِّم الناس “مجموعات إعانات” لقضاء حاجيات الأشخاص الذين يعانون من ضعف المناعة، ويتجمّعون حول الأعمال التجارية الصغيرة يكافحون بجرّات البقشيش الافتراضية، كما تقدِّم العديد من الشركات والأعمال التجارية خدماتها مجّانا على المستوى المحلي والوطني على حد سواء. لقد لاحظت أيضًا أشخاصا يقولون أنهم يعيشون حالة اتصال أعمق بالآخرين، ويشعرون بامتنان أكبر لمقدمي الرعاية الاجتماعيّة، والمدرسين وعمال الخدمات والمتخصصين في الرعاية الصحية بيننا. بالتأكيد لن يتم تذكر هذا باعتباره فترة سعيدة في تاريخ العالم، ولكن قد نذكره على نحو أنه زمن الفداء والأمل.

هل يعني أي من هذا أن الوباء شيء جيد؟ بالطبع لا، إذ كان سيكون أفضل كثيرا لو لم يحدث الوباء قط، لكن ليس هذا هو العالم الذي نعيش فيه، فالحياة كما يقول البوذيون هي 10،000 فرحة و10000من الأحزان. إذا لا يمكن لأي منّا تجنّب المعاناة بالقدر الذي يتمنّاه، ولهذا من المهم تعلُّم أن نعاني بشكل جيد.

*السيدة أصفهاني هي مؤلفة كتاب” قوة المعنى: العثور على الإنجاز في عالم مهووس بالسعادة”.

المصدر:  نيويورك تايمز، أبريل 2020 م

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :