بقلم :: إبراهيم عثمونة
الذي دق ركن سيارتي من هذه الجهة هو حادث السير الذي وقع لي معها قبل شهر . عند تلك الاشارة الضوئية القريبة من حوانيت بيع العملة بحي الظهرة . كانت مخطئة تماماً ، فالإشارة الحمراء مشتعلة في وجهها ، لكنها لا تنظر للإشارات . كانت تُقلب طرفها في ارجاء الظهرة كما لو أنها تبحث عن شيء ضاع منها في الأرجاء.
نزلتْ ، وتركت سيارتها وجاءتني لتعتذر.
حدث ذلك معي في آخر زيارة لي لـ طرابلس.
بدا عليها ارتباك من بعيد.
يومها حتى لو دقت كل مقدمة السيارة وأشعلت النار في بقية الهيكل سوف لن أحاسبها ، ولن اطلب منها اعتذاراً ، فمثلها لا ينبغي أن يعتذر ، ومثلها حين تمر كان يجب على كل المارة أن تقف ، ويجب على العربات أن تميل يميناً وشمالاً وتفسح لها الطريق حتى تتعداهم . لذلك ما إن بادرت بالاعتذار حتى رفعتُ يدي كي لا تُكمل اعتذارها.
أخبرتني أنها كانت تجوب طرابلس وتبحث في ارجائها عن فكرة رواية.
– يا الله عن فكرة رواية ؟
– نعم عن فكرة رواية.
قالت أنها لم تجد فكرة جيدة في طريق الشط فركبت على كوبري الودان وجاءت تفتش في الظهرة ، ولو لم تكن تفتش يميناً وشمالاً لما اصطدمت بسيارتي ، ولو لم تصطدم بي لكانت الآن تفتش في زاوية الدهماني.
كنتُ أعلم أن التفتيش عن الأفكار هو عمل عبثي لا جدوى منه ، فالفكرة التي لا تأتيك لوحدها هي فكرة لشخص آخر وليس لك ، لكنني لم أقل لها شيئاً من هذا.
في حين قالت هي أنها في الصباح أخذت الطريق السريع ولم تجد أي فكرة في السريع ، وعادت إلى حي دمشق والهضبة وأيضاً لا شيء . وقبل يوم ركنت سيارتها في شارع البلدية مساء وجاءت الميدان ووقفت في ظل السراي ولا فكرة ولا رواية في ظل السراي ، وأيضاً قبل ثلاثة ايام خصصت نهاراً كاملاً لوسط المدينة (ميزران وبلخير والرشيد والكندي) ولا شيء يوجد هناك . فقاطعتُها وطلبتُ منها أن تزورنا في “سمنو” ففي سمنو يا عزيزتي توجد القصص والروايات في كل مكان . ومن سمنو تبدأ كل الروايات.
ابتسمت ابتسامة عريضة , حتى أنني فكرت انها تعرف قريتي الجنوبية سمنو وإلا ما معنى أن تبتسم على هذا النحو ، ثم سرعان ما حذفتُ احتمال أنها تعرف سمنو . فالجنوب بكامله لا يعرفه أحد ، فكيف بنقطة صغيرة جداً على الخريطة مثل سمنو.
صافحتها ، وقد لا أبالغ لو قلتُ لكم أن في عيني هذه الطرابلسية لون أخَّاذ ما زلتُ أعاني منه.
سألتني عن سمنو فأخبرتها أنها واحة صغيرة ملقاة في عمق الصحراء ، وفيها توجد أفكار لكتابة القصص والروايات ، ولو زرتنا فلن تعودي إلا وصندوق سيارتك كله قصص وروايات.
اتسعت عينيها أكثر من الدهشة.
ففي سمنو تقع الأفكار امامك على أغصان الأشجار كما الطيور ، ومن ازقتها تفوح الفكرة كما يفوح البخور ، وفي جامعها مع كل سجدة تقع أمامك قصيدة ، وتحت هيبة ضريح القادرية القريب من بيتي توجد رواية من ستة مجلدات . وفي سمنو ستشاهدين بأم عينيك كيف ينقل الحمام قصص العشق من مكان إلى آخر ، وفوق خزان سمنو العالي سوف تنظرين إلى التاريخ يقف عالياً بالحب لا بالحرب ، وفي سمنو ما زالت توجد بقية من سلالة تلك الأغنام التي من صوفها نسجوا أول “سموكن” في التاريخ ، وفي حقول وبساتين واحتنا يا عزيزتي بوسعك أن تستلهمي من طنين النحل حكاية . وبالمجمل في سمنو يا أيتها الرائعة توجد لوحات لم يرسمها بيكاسو وروايات لم يكتبها دستفسكي وقصائد لم يكتبها حتى العموري نصر.