طاسة مُرَّة

طاسة مُرَّة

كتب :: عبد الرحمن جماعة

يقال إن أحد الليبيين إلتقى رجلاً إيطالياً كان يُقيم في ليبيا، وبعد التعارف والحديث عن الذكريات؛ قال الإيطالي: من أغرب ما رأيت في ليبيا أنكم في كل مرة تطهون فيها الشاي تتذوقونه!.
هل مازالتم تفعلون ذلك؟
لا أدري ما كانت إجابة أخينا.. لكنني سأجيب عنه، وقبل أن أجيب؛ دعني أخبرك بأن هذا الإيطالي لم يكن يقصد الشاي بمكوناته القليلة، وطريقة تحضيره البسيطة، وطقوسه المتعارف عليها، وإنما كان يتحدث عن منهج شعب وعقل أمة.
ذلك العقل الذي لا يستفيد من تجاربه السابقة، بل لا بد أن يُجرب كل شيء، وفي كل مرة، حتى ولو كانت هذه التجربة هي تذوق سم، أو إدخال يده في جحر، أو تمجيد شخص على أنه صانع المُحال، والمخلّص من الأوحال، والمنقذ من الضلال!
ذلك العقل الذي دوَّن كل شيء؛ شعره ونثره، حربه وسلمه، انتصارته وهزائمه، إقامته وظعنه.. لكنه لا يرجع إلى تلك التدوينات إلا حين يُفلس من الإنجاز، ليُخبر العالم بإنجازاته في الماضي.
ذلك العقل الذي لم يعرف بعدُ أنَّ لكل شيءٍ قوانين ومقادير وقيماً وضوابط يُمكن حفظها وأرشفتها واستعادتها للاستفادة منها في أي وقت.
ذلك العقل الذي لا يزال يحسب بالشبر، ويقيس بالذراع، ويَكيل بـ (المرطة)، ويحدد مواعيده بالصباح والمساء وأحياناً (الأيام القادمة)، مع أنه يحمل في يده ساعة، ويقلق إذا لم تكن مضبوطة.
ذلك العقل الذي يبني أحكامه، ويُحدد معاييره، ويرسم مبادئه، ويتخذ قراراته ومواقفه بناءً على ما تقدمه له وسائل الإعلام، وليس على معارف مبنية على تجارب ودراسات وأبحاث.
ذلك العقل الذي يُمكن إقناعه ببيت شعر، ولا يمكن إقناعه بمعادلة رياضية صارمة.
لأنه اعتاد أن يستمع إلى من يخاطب مشاعره، لا إلى من يخاطب عقله.
فيمكن لشاعر أن يقود قومه لقتال ببيت شعر من أمثال:
مَـلأْنَا البَـرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّـا… وَظَهرَ البَحْـرِ نَمْلَـؤُهُ سَفِيْنَـا
في حين أن الشاعر وقومه لم يملؤوا سوى تلك البقعة القاحلة، يتقاتلون فيها على عُشبٍ لم يزرعوه، تماماً كما نفعل نحن اليوم مع البترول!.
ذلك العقل الذي يمجد كل حاكم جديد، ويطبل له ويقدسه، دون أن يعي أن الحاكم هو مجرد موظف في الدولة، لا فرق بينه وبين أي موظفٍ سوى في اختلاف المهام وحجمها، وهذا الاختلاف في المهام وحجمها يقابله اختلاف في الأجر.. وليس التمجيد من ضمن الأجر المنصوص عليه قانوناً.
نعم يا سيد أنطونيو لا زلنا نتذوق الشاي في كل مرة، أتعرف لماذا؟
لأننا لم نتفق على معيار ثابت لكمية السكر، ولم نحدد مقياساً واحداً له، فبعضنا يغرف بملعقة كبيرة، ومنا من يغرفه بملعقة صغيرة، والبعض يغرفه بيده، أو يدلقه دلقاً، أو يقطع كاغط
من علبة الشاي ليستعمله كملعقة.
لكن المشكلة تهون، والمعضلة تصغر، إذا ما انحصرت في الشاي وفي تذوقه وطريقة تحضيره!
يا مسيو أنطونيو.. سأخبرك بسرٍّ، ولكن لا تُخبر به أحداً..
عندك علم؟.. أننا لا نتذوق الشاي فقط.. بل نتذوق المهانة والذل والحرمان والفوضى وانعدام الحقوق وغياب القانون وتفشي الفساد وقلة الحيلة ورقادة الريح… إلى آخر “المنيو”!.
أتعرف لماذا؟
لأننا كالأسماك.. لا يمكنها أن تستفيد من التاريخ!.
ولأننا نجهل أن سيادة القانون وثبات المعايير هي وحدها من تُغنيك عن التذوق في كل مرة!!
سنيور أنطونيو.. نصبلك طاسة؟؟
______________________

– قصة الليبي والايطالي واقعية.
– المرطة = مكيال يُستعمل في ليبيا للحبوب.. غالباً ما يكون سطل زواق.
– كاغط، كاغد = ورق غليظ.. وهي فصيحة.
– بيت الشعر من معلقة عمرو بن كلثوم.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :