تقرير/ سلمى عداس
في مدينة اعتادت على الضجيج السياسي، واعتادت فيها الجدران على ابتلاع الأصوات، جاءت الجثث لتتكلم. ليس عبر الكلمات، بل بالصمت الثقيل الذي فاض من ثلاجة الموتى في مستشفى الحوادث بأبوسليم، حيث عُثر على 58 جثة مجهولة الهوية، مخزنة في مكان لا يبعد سوى أمتار عن مقر وزارة الداخلية.
لم تكن الجثث وحدها من اختُزِلت في الصمت، بل قصة غيابها، وسكوت الدولة، والأسئلة المعلقة حول من هم، ومن أخفاهم، ولماذا صمت الجميع طوال هذه السنوات؟

بيان صادر عن وزارة الداخلية، بإذن من النيابة العامة، أشار إلى أن الثلاجة كانت تخضع في السابق لحماية جهاز دعم الاستقرار، وأنه تم التحرك بناء على بلاغ صادر من إدارة المستشفى إلى المحامي العام بطرابلس. وبحسب البيان، تولّت فرق من جهاز المباحث الجنائية، والطب والطوارئ، عملية الفحص والمعاينة بإشراف النيابة، وتم التعرف على 23 جثة فقط حتى تاريخ الإعلان.
لكن خلف هذه الأرقام، تكمن قصصٌ مجهولة، وأرواحٌ خرجت من الحياة في صمت، وتُركت في الصمت ذاته.
متى دخلوا… ولماذا لم يخرجوا؟

لم يُعلن حتى الآن عن تاريخ دقيق لوصول الجثث إلى الثلاجة، كما لم تُوضح هوية من أمر بتخزينها، أو سبب عدم فتح تحقيق فوري في وقت سابق.
الموقع الذي وُجدت فيه الجثامين يبعد أمتارًا فقط عن مقرات وزارة الداخلية وبعض المؤسسات السيادية، ما طرح أسئلة حول دور الرقابة والإشراف في هذه المنشآت.
من هم هؤلاء الأشخاص؟
هل هم ضحايا صراعات مسلحة؟ أم معتقلون لم يُوثّقوا؟ أم مهاجرون قضوا في مراكز احتجاز؟
حتى اللحظة، لا توجد إجابات رسمية واضحة.

مقبرة أخرى… وقصة فتاة اسمها رؤية
بالتزامن مع التحقيقات، أعلن اللواء 444 قتال عن اكتشاف مقبرة جماعية داخل مقر تابع لبلقاسم الككلي، نجل عبد الغني الككلي، قائد جهاز دعم الاستقرار. ووفقًا للواء، فإن إحدى الجثث التي تم استخراجها تعود للمفقودة “رؤية”، بناء على إفادات أدلى بها أحد المقبوض عليهم، ودُعّمت بتحليل الحمض النووي رغم آثار الحرق على الجثة.
وبحسب الفريق المختص، فإن معظم الجثث تعرضت للحرق بعد الوفاة، مما تطلب إعادة تحليل العينات بمعدات أكثر حساسية.
من هي رؤية؟

رؤية، فتاة ليبية تبلغ من العمر 16 عامًا، كانت قبل أشهر محور نداءات إنسانية مؤلمة أطلقتها والدتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تناشد فيها الجهات الأمنية في طرابلس – وعلى رأسها عبد الغني الككلي (غنيوة) وعبد المجيد الدبيبة – للتدخل بعد اختفاء ابنتها في ظروف غامضة.
بحسب رواية الأم، فإن رؤية تم اختطافها من قِبل عناصر يُشتبه بانتمائهم إلى جهاز دعم الاستقرار، وتحديدًا من قبل نجل شقيق غنيوة الككلي، أو عناصر مقربة منه. ظهرت الأم في مقاطع مصورة وهي تبكي وتستنجد بكل من له سلطة أو سلاح في طرابلس، دون أن تلقى استجابة أو تحركًا علنيًا يُذكر.
اليوم، وبعد إعلان اللواء 444 قتال عن العثور على جثامين في مقر تابع لبلقاسم الككلي، نجل غنيوة، أشار أحد المقبوض عليهم إلى وجود رؤية بين الضحايا.
وتم دعم هذه الإفادة بتحليل أولي للحمض النووي، أظهر تطابقًا مبدئيًا، ما أعاد فتح القضية المؤلمة على نحو فاجع.
صوت الشارع: أين الدولة من كل هذا؟
في شوارع طرابلس، وبين صفحات الليبيين على مواقع التواصل، لم يكن الإعلان عن الجثث مجرد خبر. بل تحول إلى صدمة اجتماعية وإنسانية، تخللها تساؤل جماعي متكرر:
كيف يمكن أن تُخزن أجساد 58 إنسانًا في منشأة حكومية دون علم الدولة؟
قال المواطن عماد الدين عبر منشور متداول:
> “الدولة كانت على علم وسكتت، واليوم يتم استغلال الجثث في حرب إعلامية.”
وكتب أحمد فتحي: > “جهاز الأمن العام متهم منذ سنوات بأعمال ابتزاز واعتقالات… لماذا لم تُفتح هذه الملفات إلا اليوم؟”

فيما تساءل محمد الورفلي: > “هل يُعقل أن يناقش الوزير ملف المهاجرين مع السفراء، بينما تُكتشف جثث في مستشفى قريب من مكتبه؟”
وقال المواطن عبدالله بوراوي: > “الكذب حباله قصيرة، وعندكم ألف وسيلة تستعطفوا بها الشعب، لكن نقل جثث المهاجرين لتوجيه الاتهام لغنيوة أو غيره ما هو إلا محاولة مكشوفة، وتكررت في السابق في ترهونة.”
وقال الناشط الحقوقي المهتم بملف الهجرة وحقوق الإنسان، طارق لملوم: > “كل هذا العدد من الجثث التي تجاوزت 57 جثة يتم العثور عليها في ثلاجات مستشفيات بالقرب من مبنى وزارة الداخلية – ليبيا ولا تعلم بها، ووزيرها يتحدث اليوم في اجتماع رسمي مع سفراء دول ويطلب أموالًا بحجة أن الهجرة أرهقت الليبيين؟”
“واضاف “لقد طالبنا منذ سنوات بتفتيش المقرات العسكرية ومراكز الاحتجاز، وكنا نعلم بوجود تلك المقابر التي تزعم الحكومة اليوم أنها مصدومة من اكتشافها.”
وقالت ناشطة حقوقية ليبية: > “لقد صمتوا طويلاً عن الجرائم، وتغاضوا عن المقابر والسجون، لأنهم كانوا شركاء في النفوذ والغنائم. اليوم فقط، وبعد أن افترقت المصالح وتفككت التحالفات، بدأوا بتصفية بعضهم البعض، وفتحوا الملفات التي كانوا يخفونها وهم على علم بها، وأخرجوا الجثث ليصنعوا من الدم بطولة زائفة. ما يحدث ليس عدالة… بل مسرحية سياسية تهدف إلى تلميع صورهم، لا إلى إنصاف الضحايا.”

الضحايا بلا أسماء… والعدالة تنتظر
من بين الجثامين، لا توجد أسماء، لا تواريخ، لا سجلات طبية. فقط أجساد باردة، موضوعة على الرفوف، بانتظار أن تُعاد إليها هويتها وكرامتها.
وتواصل هيئة البحث والتعرف على المفقودين، بالتعاون مع جهاز المباحث والنيابة العامة، جهودها في توثيق الحالات وتحليل العينات، وسط تأكيدات باستخدام تقنيات DNA دقيقة، إلا أن التأخر في الإعلان، وعدم وضوح الأطر الزمنية، يترك مساحة كبيرة للشك والتوجس.

خاتمة: من يروي حكايتهم؟
الجثث التي اكتُشفت في مستشفى أبوسليم، ليست مجرد حادثة أمنية، بل ملف إنساني بامتياز، يضع الدولة الليبية ومؤسساتها أمام مسؤولية مزدوجة:
البحث عن العدالة، والاعتراف بالضحايا.
لأن الإنسان، حتى إن مات، لا يُنسى…
ولأن العدالة تبدأ حين نُسمّي كل ضحية باسمه، لا برقم على بطاقة ثلاجة.














