علي ضوء الشريف
إن الواقع الليبي واقع متميز باحتوائه لجميع صور الإرهاب “السياسي والاجتماعي والديني” ، ولم يعد من بد إلا إيجاد حل بعيد عن ساسة هذا الواقع ، ولعل حراك أبناء المؤسسة العسكرية هو البديل الأمثل إزاء فشل ثوار التغيير في تثبيت استقرار البلد وتنميتها ، وما هذا الحراك برأيي إلا رداً على تطرف بعض التيارات الرافضة للمصالحة الوطنية بسبب تخوفها على مكاسبها وطموحها السياسي ، وقيمة العدالة ترفض استئثار جماعة من المجتمع بالسلطة والمال على حساب الجماعات الوطنية الأخرى ، وتحت أي ذريعة ، وفي ليبيا وجدنا أن الثورة سند لتملك الدولة ، وهذا مالا يجوز ، والثائر الحقيقي لا نتصور أن يهدم قيم الباطل ويعيد بنائها من جديد ، ولعل لهذه الحالة أسبابها ، فالعقود المنصرمة من الجمود السياسي الداخلي بالإضافة الى حالة الانغلاق شبه الكامل هو ما أثر على ثقافة المجتمع السياسية ، وإزاء هكذا واقع وهكذا ظروف لا نتصور أن يخلف أحداث فبراير سريان منتظم ومضطرد وبصورة مستقرة للعملية السياسية ، فالدولة بلا مؤسسات قيادية ، لهذا أملنا أن يكون للمؤسسات التقليدية ( القبائل ) دور سياسي مرحلي ، والمعالجة الأمنية للحالة الليبية على أهميتها في ظل الظروف الحالية إلا أنها غير كافية لحلحلة اشكالات الواقع وعلى رأسها الإرهاب الذي يتطلب ضرورة اعمال مسارين متوازيين ، الأول : يتجسد في ضرورة ايجاد مصالحة وطنية حقيقية تعتمد على المكاشفة والمصارحة والعدالة الانتقالية والعفو ، ولا يقف مسار هذا الحل عند هذا الحد ، بل يجب على الدولة أن تتخذ خطوات ايجابية في إطار الجانب الخدمي سواء بتأمين الدولة وبناء مؤسساتها وتقديم الخدمات للمواطنين بشكلها الأمثل ؛ خاصةً الأساسية منها ، أما المسار الثاني : فيتجسد في دعم المنظومة التعليمية وضبطها ؛ خاصة فيما يتعلق بالجانب الديني ، فنحن بأحوج ما يكون إلى تصحيح الكثير من المفاهيم هذا إن وجدت ، وليس بالضرورة أن يكون لتحقق المسار الأول نتائج ايجابية خاصة على ظاهرة التطرف والتطرف الديني ، فبعض الدول المصدرة للإرهاب يعيش مواطنوها حياة مرفهة مالياً وفي ظل نظم ديمقراطية يقوى فيها الحق بفضل العدالة وسلطان القانون ، مع ذلك نراها بيئة ناشئة للإرهاب ، والسبب في ذلك هي تلك المفاهيم الخاطئة التي نشأ عليها المواطنون ، حينها وكما كانت البيئة بظروفها السيئة سبباً في تكوين الشخصية المتطرفة ، فإن المفاهيم الخاطئة هي أيضا كفيلة حال تحولها إلى عقائد بتكوين الشخصية المتطرفة ، لهذا فالتطرف هو انعكاس في غالبه لحالة توتر نفسي في المستوى المرضي أو تعصب أعمى لمفاهيم خاطئة بالقدر الذي يكفل لهذه الشخصية القدرة على ترجمة تعصبها ماديا على أرض الواقع في صورة جرائم لا تعكس حقيقة الفطرة الإنسانية الميالة للسلم والسلام .
إن أهم ما يميز الشخصية المتطرفة هو طبيعة تعاملها مع الأخطاء ، فعلى سبيل المثال ونحن في إطار الحديث عن التطرف الديني نجد المتطرف هنا لا يعبأ بالظروف الزمانية والمكانية في إصدار الفتوى ، فيحصر آرائه في إطار التحريم والفرض ، هذا إن سلمنا بأهليته في إصدارها ، مما يستتبع ذلك المشقة على من صدر الحكم في حقه ، وهكذا أمر فيه مخالفة صريحة لما ذهب إليه الكثير من الفقهاء إن لم يكن إجماعهم في أن الفتوى الدينية تقع في إطارٍ تقديري بين الجائز والمستحب والمندوب والمكروه والمحرم ، كلٌ حسب ظروفه ، فالفتوى تختلف بحسب الزمان والمكان ، فما هو محرم بالأساس قد يكون جائزاً استناداً على قاعدة الضرورات تبيح المحظورات ، كما أن السياسة الشرعية تعتمد على التدرج في الأحكام ، وهذا الأسلوب فيه حكمة عظيمة في تأليف القلوب على الحق ، فالخمر على سبيل المثال لم يكن محرما في بداية الإســلام حتى جـاء قوله تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمر كبير ومنافع للناس } [ البقرة 219 ] ثم جاء قوله تعالى في حق من أراد أن ينال منافعها { يأيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلوات وأنتم سكارى } [ النساء 43 ] ، ثم جاء قوله تعالى في حق من أراد شربها في غير أوقات الصلاة { يأيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } [ المائدة 90 ] ، فمسألة التدرج في التعاطي مع المخالفات الشرعية مسألة هامة جدا ، والهدف منها تحقق مصلحتين ، مصلحة ازالة المخالفة ومصلحة الحفاظ على المخالف ، أما أن ننهي المخالفة بإنهاء المخالف فهو محل خسارة كبيرة للدين والوطن ، كما أن إشكالية
الشخصية المتطرفة في تعاملها مع المخالفات الشرعية تتجسد في استعانتها بنظرية القوة الذاتية في مناصرة الحق كما تدعي ، وهذا المسلك خطير على وحدة المجتمعات واستقرارها لما فيه من خروج على سلطان الحاكم ، وتستمر سلسلة إشكالات الشخصية المتطرفة والمتطرفة دينياً بالتحديد في إطار تعاملاتها مع المخالفات الشرعية في أن تعصبها قد يكون في مواطن تحتمل الاختلاف ، كمن يرى لزوم الوضوء من لحم الجزور والعكس ، ومن يرى بأحقية خطبة الجمعة على تحية المسجد والعكس ، ومن يرى بجواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته والعكس ، ولعل من أبرز القضايا الحية في الخلاف هي مسألة وجوب الخلافة كنظام سياسي من عدمها ، ونحن اليوم نعاني من تبعات هذا الخلاف (الخلافة) في طريق بناء الدولة المدنية الحديثة ، فقد واجهنا حملة شعواء في ذلك من قبل تيارات الاسلام السياسي التي عرقلت عملية البناء خصوصاً ما تعلق بقضية مشاركة العامة في انتخابات السلطتين التشريعية والرئاسية وكذلك قضية البناء المؤسسي للجيش والشرطة ، فالتعصب لرأيٍ صائب ٍ لا يمنح صاحبه الحق في التسيد به وفرضه ، فرب المقابل أصوب .
أخيراً : على الرغم من كل ما رأيناه ونراه من تشدد يظل التعامل مع هكذا حالات في إطار الاحترام لحرية الرأي واجب مالم يُتَجَاوَزُ حد الحرية إلى حق الغير ، ويظل الحوار ضروريٌ وهام مع جميع الأطراف من أجل الوصول إلى توافقات تعالج الفجوة المدمرة التي عانينا ونعاني منها ، فالحوار هو السيل الأمثل نحو السلام والاستقرار ، حفظ الله ليبيا وأهلها