- قصة قصيرة / أحمد ونيس المكي
إيقاع
خطواتي بين تقدم ورجعة إلى تلاشي الأزقة، وتفرعات الطرق المؤدية لفناجينِ ذلك
المقهى _ يسحبني شغف الرشفة، وتتملكني لهفة التذوق.
مررت بِأرصفة لا تزال
صائنة لأقدامِ من مروا بها، وتركوا أطلال أحذيتهم. الجدران يمنةً، ويسرة تغدو
وكأنها مرايا تعتنق الوجوه بما حَوَت، فكل ما تلفظه الذواكر تتكفل إحتوائهِ
الأماكن تخبرنا الذكرى دائماً.
السابعة مساءًا. يوم
غائم بالأتربة، كأنه الصحراء تجتاح أبواب، ونوافذ المدينة فأضحت السماء تشتعل
حُمرةً يغتلفها رماد تلك الأرواح الرثة.
من طريقٍ لأخر، وزقاق
يفضي لأخيه حتى أتعبَ المشي قدماي، وأنهكَ التذكر فؤادي _ أشرت بِأصابعي بعد أن توقفت لأطلب سيارةُ أُجرة. وقفت السيارة بِمحاذاة
الرصيف، وفُتحَ بابها من الداخل لوجود مشكلة كما بدا لي بِمقبضهِ الخارجي.
ركبت بعد إلقاء التحية
مُشيراً بِإبهامي والوسطى للسائق بِإمكانية التحرك.
بدأ الحديث بِمبادرة
السائق مناولتي سيجارة سائلاً هل تدخن؟
– أجبت لا! ، وضع السيجار ذاتهِ بِفمهِ متمتماً
” افتكيت منه يا صاحبي “
شرعَ في حديثهِ عن
الناس، والزمان، والأمس واليوم عن كل شيء. المتغيرات والفوارق التي سقطت بين
جيلهِ، وجيل والدتهِ حليمة مُشيدًا بما كانت تفعله عندما كان صغير؛ كتعاملها مع
الناس، وحرصها على صلة الرحم، وإجابة المسكين وإطعام الغريب مُستشهدًا بعدة مواقف
لاتزال حاضرة بفؤادهِ: ” نذكر زمان جيرانه اللي ورانا عيت سي عبدالعالي الله
يرحمه في ظهر هضك النهار، تسمع أمي في التخبيط والتصليح __شوية سألتني:
– يا عويضة من اللي جايب أسطى من عرب الحي؟!
– هضوما عيت سي عبدالعالي يا أمي.
– بهناهم ان شاء الله يا عويضة، انعن ما حطوها
واصلحوها ينتهي الزمان ولا بادة.
و أستمر عويضة في الحديث
عن والدته: ” و بعد جاء وقت الغداء ضبحتلي أمي:
– يا عويضة. يا عويضة. تعال شيل الصفرة.
– شنو هضا يا أمي؟!.
– هضا غداء اتشيله توا للسطى اللي جايبينه جيرانه.
رفض عويضة التحرك قد
أنملة إلا بعد أن يستلم من صُرة حليمة ربعُ دينار الذهاب ليمر بهِ بعد إذاً على
بقالة الشارع مُبتاعًا التسوس لأسنانهِ، ومُقتسماً لقطع السكاكر والشوكلاطة رفقة
أصدقائهِ أبناء الشارع الواحد، لا الحي لأنه أوغاد الشارع الخلفي بالأيام الماضية
إجتمعوا على تلك ” الخليطة ” مُتعمدين عدم إخبار عويضة ودعوتهِ، ذلك
لأنه ” فقري ” ولا يأتي إلا بالسكين، والآواني الفارغة، وقليلٌ من الزيت
الذي يأتي بهِ خِلسةً عن حليمة، وإلا أصبحَ نهاره ” فيشطة ” إن علمت.
أدخلت حليمة يدها
بالشكماجة مناولة عويضة ورقة الربع دينار من صُرة نقودِها قائلة:
– هضا ربع جنيه يقرا ويكتب، ما تصرفش كله عالقطاف
الفاضي.
ركضَ عويضة طائرًا خارج
المنزل بعد إن احتضنت راحة يدهِ ثمن توصيل الصُفرة للعامل بمنزل عيت عبدالعالي.
عندما أشرفَ عويضة على منزل عيت عبدالعالي رأى العامل المِصري الجنسية تصبغه شمس
تلك الظهيرة أعلى المنزل، وهو يقوم بِصيانة مضخة الماء بالسطح.
– أرسلَ عويضة ندائهِ الأول: يا معلم …
– ثم أعاد ندائه مرة اخرى: يا معلم، يا معلم.
إستجاب العامل للنداء
قائلاً:
– عايز ايه يابني؟!
أجاب عويضة:
– أمي دزتلك هالغداء. أنزل بيش تاخذ الصفرة.
أشتعلَ قلب العامل فرحًا
عند رؤية الصفرة بين يدي عويضة، ورجاه الإنتظار قليلاً حتى يبلُغ أرض الشارع،
نزولاً من السطح لتسلم الصفرة.
راح العامل على درجات
سُلم المنزل يركض لبلوغ بابهِ وإلتقاف الصُفرة. اثناء ذلك مرَ مفتاح
“طراطيش” رائد القصقصة بالحي، إلى جانب قدرة عينهِ الفذة على اختراقِ
وفقأ كل شيء، مُتحركًا كان أو ساكن. وجعلهِ طراطيش.
ألقى مفتاح التحية على
عويضة، فأجاب بِمثلِها بعد أن تلى المعوذات وما تيسرَ من الأذكار سائلاً ربه رفع
البلاء عن الصُفرة بعد أن اقتنصها طراطيش بِحدقتيه.
سأل مفتاح عويضة عن ما
يجري بِمنزل عيت عبدالعالي __ أجاب عويضة:
– جايبين أسطى يصلح في المضخة.
أسترسل مفتاح في الأسئلة
بِشغف:
– و انت فيش ادير هنا؟ وشنو الصفرة اللي فيدك؟!
– هضا غداء دازته أمي للسطى.
أردفَ مفتاح في ازدراء:
– والله حتى حليمة أمشقية روحها اللي دازه غداء
لعقاب مصري.
نأسف هنا للأقطاب
العربية عن ما بدرَ من مفتاح، والذي يملك منظار النقص والإكتمال متراءى له نواقص
الشعوب جمعاء، وإكتمالهِ دونًا عنها___ فشعبنا فقط من ظفرَ بالكمال والإكتمال في
كل شيء، و ما وجد غيره من بشر “عقابات”.
وصلَ العامل عتبة الباب
لتسلم الصفرة، شاكرًا عويضة، ووالدتهِ الكريمة. عائداً بها إلى السطح لتناولها. و ما
إن دخلَ العامل، وأقفلَ الباب ورائهِ حتى إخترقت صرخةٌ مدوية البابَ نفسه، وأستقرت
بالشارع، يصحبها إرتطام أواني بِدرج المنزل.
رمقَ عندها عويضة مفتاح
بِفتور قائلاً:
– عطيتها له يا فتوحة…
ثم هرعَ عويضة نحو باب
المنزل بعد إن فُتح من الداخل، وكانت الحاجة رجعة زوجة الحاج عبدالعالي هي من فتح
الباب لطلب المساعدة من سكان الحي لنجدة العامل الذي وقعَ على الدرج، ولم يقتدر
الوقوف مرة اخرى.
إجتمعوا سكان الحي
لتلبية نداء المساعدة الصادر من الحاجة رجعة، حاملين العامل على أيديهم لإسعافهِ.
أسعفوه، وأنفضَ التجمهر
أمام المنزل. أخترق عويضة لحظة الصمت تلك وطرئ على مسامع الحاجة رجعة:
– دزتني أمي بالصفرة اللي انكبت هذي للسطى عشان
ايتغدا يا عمتي رجعة، لكن خسارة تبددت، و ما كلاها المسكين.
– كأنه كلاها يا عويضة، النية مصدرة يا باتي، وقول
لأمك نعنك ما تغيبي وسلمك دزازه، ونعن كل مصروف امخلوف يا حليمة.
ركضَ عويضة بعد سماعه
تلك الكلمات من رجعة عائداً بالأواني الفارغة للمنزل، حيث حليمة كانت في إستقبالهِ
تشتاط غضب لتأخرهِ في العودة.
عنده وصوله البيت وجدَ
حليمة في إنتظارهِ تفلت عيناها دماءًا. وما أن رأته حتى نهرته قائلة:
– وين كنت اتنسرف، وانت ادور دوران كلب القوايل
اللي امدودة وذنه.
– فأخبرها بما حدثَ معه مؤكدًا صدقَ ما يقول
بِحلائف عدة تارة بِسيدي عبدالسلام، وأخرى بِسيدي مرعي، و ما حضرَ في بالهِ من
الأولياء.
لم تعلق على ما تحدث به.
بل أكتفت بالصمت قائلة:
– صادق. خش قمعز علي قرايتك.
ضة
صِباه مُودعًا ربع دينارهِ، وقناعة القليل الكافي. تاركًا ورائهِ بقالة الحي،
وسكاكر أعطبت أسنانهِ.
كَبُرَ عويضة، وشارف
الرُشد، والإدراك بما حوله. فتراءى له ما لم يتمنى رؤيتهِ _ حليمة لم تعُد قادرة النهوض والطهي، وإعداد الشاي والقهوة بِمذاقهن
المُختلف. أصبح يفتقد نهرها وإرسالها له، ومعاتبتهِ على التأخير عند العودة.
طعنت حليمة في السن،
وهذا ما أحزنَ عويضة كثيراً بالرغم معرفته الجيدة بأنها سُنة الحياة. لكنه ظل كل
ليلةٍ يتمتم بمُحاذاة سريرها وحافظة أدويتها قائلاً:
– خسارة في الكبر يالحنونة.
ذات ليلة تسَلَلَ ما همس
بهِ عويضة لمسامع حليمة فأردفت بعد أن تنهدت، محاولة بذلك إفتكاك الكلمات من دهشةٍ
تربعت بأنفاسها للظفر بجملة تقولها:
– الدنيا هذي يا عويضة ما حال فيها دايم. ناس طالعة
منها وناس خاشتلها. ومهما توهمت طولها، قصيرة وأن طالت __ كي “ظل
العشية” يالهبل زائل ومنتهي. أدفني حذا بوك يا عويضة، ترافقنا في الدنيا،
وبالك انترافقوا في الأخرة. و يعينك الله علي زمانك يا وليدي.
دمعةٌةساخنة طرفت عينهِ.
أُسدلَ بعدها ستار خواتم الفقد المُشضي للأنفُس. عتمة أقصت ضوء غرفتها الذي كان
يرتكز على نورها، فأضحت حالكة بعد توهج _ إنطفأت حليمة، وتلاشت الصورة التي سبقها إنعدام الألوان.
يومٌ لك، وعشرةٌ عليك.
هكذا هي الحياة___ تحيا فَتُشاهد مَرارةُ فقد من ظننت يوماً خلودهم.
تُنعي رحيلها شجرة الحي،
تسقط أوراقها باكية. وتهجر النقود صُرتِها باحثة عن حصالة لتختبيء بها من الفاجعة.
فيما يتكومُ الجرد على نفسهِ بالخِزانة، فلن يحتزمهُ خصرُها بعد اليوم، ولن تُكتب
لها التشميلة مرةً أُخرى.
نكتبُ الألم جُمل
ومفردات تبروزها الصفحات. تقف الطيور تُغرد عند أولِها، وتبدأ مياهُ العينِ
بالتمرجُح ليدفعها الحنين بكلتا يديه.
غادرت حليمة “ظل
عشيتِها” لكنها تركت لعويضة ظل الرحمة، والإنسانية الباقية في نفسهِ ما بقيت
هذه الأرض، ومن عليها.
هنا على طاولة المقهى
أجلس. أسندُ يدي لمقدمة رأسي الممتليء بالحديث. و إلى جانب قهوتي أتناول منها
كفايتي بين الفاصلة، والأخرى _ تمتشق أصابعي القلم فيشترب بياض الورقة حبره. أقلني عويضة إلى هنا قبل قليل
رافضاً بشدة أن يأخذ مني درهماً واحداً. و ذهب يبحث عن توصيلة تاركاً إلحاحًا
بنفسي ألهمني الكتابة عن ظل عشيتنا المفقود.
أحمد ونيس المكي