- محمود السوكني
هناك بيت من الشعر الشعبي القديم يقول :
(في حال يا ناشد علينا حاله
حيين .. لكنتي حياة مذبالة)
ماذا نريد من هذه الحياة ؟ ما الذي نسعى إليه ونحن نصارع أفعالها وأهوالها و (حفر ناسها) التي لا تنتهي ؟ فلماذا الإصرار على التشبت بها ؟ .
لماذا التعلق بزمنها الذي يتلذذ بتعذيبنا ، و يتسلى بحرق أعصابنا ؟ ما الذي يدفعنا إلى حبها و هي تكرهنا و تحاربنا و تمارس شبقها السادي في إيلامنا وتقطيع أوصالنا ؟! .
تعاندنا الظروف ، و تسد في وجهنا المنافذ ، و تصنع المتاريس والمطبات ، و تتفنن في وضع العراقيل ، و تخلق المصائب تلو المصائب ، و لا تستكين ولا تهدأ ولا تلين !! .
نقابلها بالحبور و البهجة ، و تواجهنا بالصد والهجران !
نسعى إليها طائعين مختارين و القلب مفعم بالخير ، وهي لا تألوا جهداً على نفث سمومها ، و بعث شرورها ، و تضييق الخناق على رقابنا .
من قال إن الحياة حلوة ؟ وكيف نفهمها وطلاسمها معقدة ، و مسائلها شائكة ، وألغازها محيرة ؟! .
كلنا جاء للدنيا والأمل يحدوه في أن يعيش حياة هانئة مطمئنة ، فإذا بالعثراث تصادفه منذ المهد ، وإذا بالمنغصات تلازمه في كل خطواته ، وكأن شرط وجوده في هذه الدنيا ، أن يتعذب ويكابد ويشقى ولا يستقر به حال ، و لا يهنأ له بال !! .
هل كتب علينا أن نعيش عذاباتها التي لا تنتهي ، فمن مطب لآخر ، ومن عثرة لأختها ، ومن مشكل إلى مصاب ، و من واقعة مجلجلة إلى سقوط ذريع ، و الكل يشارك ، و الكل يتدافع لإشعال حرائقها وتغذية مآسيها ، وكأنه سباق محموم لعذاب مستطير لا نهاية له ! .انظروا الوجوه التي تصادفكم وأنتم تجوبون الشوارع وتذرعون الأزقة ، ولاحظوا كم العبوس الذي يعتريها ، واكتشفوا مقدار هائل من الغضب والشرر الذي يتطاير من أعينها ، وحالة التربص التي تنضح على ملامح وجوهها وكأنها في حالة استعداد للتلاحم والمواجهة ، تتحين الفرصة للإنقضاض والتشابك بالأيدي والعراك لأي سبب و بدون سبب !! .
و … إذا ما تصادف أن رأيت وجهاً مبتسماً ، فأعلم يقيناً أنها حالة شاذة عن القاعدة ، أو قد يكون مصابا بلوثة في عقله ، أو أنه لايعايش هذه الظروف ، ولا علم له بها ، لسبب من الأسباب ! .
حياة كلها ضنك ومعاناة وقلق دائم ، بين علائق مضطربة ، و أحوال معيشية صعبة لا أمل يلوح في الخروج منها ، ولا رجاء يؤمل في معالجتها ، ولا بشائر تنبيء بالتغلب عليها ! .
كيف السبيل إلى الخروج من هذا الجحيم الأرضي المستديم ؟
لا إجابة تشفي الغليل ، ولا رد يريح البال ، ويهدئ الخاطر ، و يزرع السكينة في المهج ، ويمنع الشاكي من ذرف الدموع ، فهي خطى كتبت علينا ، وعلينا أن نعيشها إلى آخر المشوار ، إحدى المقولات المسكنة للآلام ، تلوكها ألسنتنا في كل نائبة بإستكانة وخشوع ورضوخ كامل ، علها تساعدنا على الصبر على مثالب الحياة وتقلباتها المزعجة ، وأوجاعها المستطيرة ! .
ينصح البعض باللجوء إلى الروحانيات ، والتماس العون من الدساتير السماوية ، والرجوع إلى القدرة الإلهية التي أوجدتنا لحكمتها على هذه البسيطه .
حاشا لله الواحد الأحد وهو الخير والحب والعدل وكل شي جميل أن يكون خلقنا لنشقى ، وأن يكون سبحانه بث فينا الروح لنتعذب ، فهو أعظم من هذا وأسمى وأرفع فلا حاجة له جل شأنه بأن يخلق الكائنات ليرضي ذاته العليا بالأهم وهو الرحمن الرحيم واسع المغفرة عظيم الشان ، تعالی سبحانه عن كل شيء ، لاحول ولاقوة إلا به .
هم البشر ، لاغيرهم ، من يكدّر الحياة ، ويعكر صفوها وينسجون متاعبها ، ويحيكون مؤامراتها ، ويتفنون في غلق مساربها ، وقفل أبوابها ، وتدمير خطوطها ، إرضاءً لشهواتهم ، وإشباعاً لساديتهم وتغذية لمشاعرهم غير السوية !! .
رب العزة ، حدد شرط وجودنا في الحياة بعبادته الخالصة لوجهه الكريم ليس أكثر ، ووعدنا بالجزاء الحسن إذا ما أحسنّا في أدائها ، وأخلصنا في مناسكها ، وأتممنا شروطها ، ماعدا ذلك ، فهو صنع البشر ، وألاعيبهم و(حفرهم) التي لا تهدأ وتيرتها ولا ينتهي نشاطها ، ولا تخمد نيرانها المستعرّة .
نسأل الله العفو والعافية ، ونستجدي قوته سبحانه لمجابهة هذا المعترك ، ومقارعة هذا الهجوم الشرس الذي لا نعلم متى ينتهي ، ومتى يعلن عن انتهاء فصوله المأساوية .














