عزة كامل المقهور لفسانيا : لماذا علينا أن نعود دائما إلى البدايات ؟ تبدو لي بعيدة الآن زمنياً ومكانياً !

عزة كامل المقهور لفسانيا : لماذا علينا أن نعود دائما إلى البدايات ؟ تبدو لي بعيدة الآن زمنياً ومكانياً !

حاورها :: سالم البرغوثي

لو التقطت قصاصة ورق ممزقة في الشارع العام وقرأت ماتبقى فيها من حروف أو حتى مجرد كلمة لست بحاجة لذكاء استثنائي لتتأكد أن عزة المقهور مرت من هنا قبل قليل. الحوار مع المحامية والأديبة عزة المقهور قد يأخذك في رحلة بلا عودة .إلى مجاهل مابين المدينة القديمة في طرابلس والحي الصيني في باريس أو بين كرات الثلج في المهجر وبين فيراندة عمتها في طرابلس.

الاديبة المحامية : عزة كامل المقهور

امرأة مثقفة حدالشبع قوية صلبة ومع هذه القوة والصلابة فإنها تخفي ألما وحزنا ودموعا على وطن يضيع وغربة على حافة العالم لاتعرف متى تنتهي. عزة المقهور من عائلة عريقة ومدينة عريقة ونالت الماجستير من جامعة السربون العريقة وتجيد لغتين عريقتين الإنجليزية والفرنسية إلى جانب اللغة الأم العربية .

تتبعت أثر والدها كامل المقهور في دراسة المحاماة وكتابة القصة فكانت خير خلف لخير سلف.

كيف نشأت بذرة الكتابة عند عزة المقهور؟

 لماذا علينا أن نعود دائما إلى البدايات؟ تبدو لي بعيدة الآن زمنيا ومكانيا.. بات الخيال وحث الذاكرة ونبشها فعلا شاقا ومرهقا.

ولدت في بيت تتسلق على جدرانه الكتب.. حديقة متنوعة ما بين السياسة والأدب والقانون والاقتصاد والدين والفكر وحتى الطبخ، تصدح أرجاؤه بالموسيقا ما بين المالوف وسلام قدري وأم كلثوم وسلامة حجازي وسيد درويش وما بين بتهوفن وباخ وأديث بياف وجو داسان والكانتري ميوزك.. كان كنزا مفتوحا ما عليك إلا أن تحرك إصبعا واحدا ليستجيب لك ويقع بين يديك وتحت ناظريك.

ذات مرة وقد بدأت أدرك ما حولي ويطرق السؤال بابي.. سألت والدي عن موضوع ما، كان جالسا أمام التلفاز بكل أريحية وبإمكانه الرد باختصار، لكنه نهض أخذ بيدي وأوقفني أمام المكتبة الضخمة وجذب بإصبعة كتابا أخضرا ضخما عنوانه القاموس السياسي.. قال لا تسألي بل اقرئي.. ظل هذا القاموس رفيقي لسنوات كلما عنّ لي سؤال. تعلمت يومها أمرين.. الأول أن لا أستسهل الطرق وأنشد المعلومة القيمة بكسل ولا مبالاة، والثاني أن عليّ اختيار المصدر الصحيح للمعلومة. بدأت ككل الفتيات أكتب ما اعتقدنا أنه نظم شعري.. كانت زميلاتي في الدراسة يطرين ما أكتب.. أعتقد أن والدتي الحبيبة أعلمت والدي، فاجأني ذات يوم..

هل تكتبين؟ خجلت جدا.. طلب مني أن أطلعه.. جئت بأوراقي مترددة.. قرأها بسرعة، أخذ بيدي مرة أخرى وأوقفني أمام مكتبة الصالة الممتدة على طول الحائط وبإصبع واحد جذب كتابا أزرقا عليه صورة سيدة، وقال لي الشعر الحر له قواعد وأسس، هذا كتاب نازك الملائكة قضايا الشعر الحر، اقرئيه جيدا.. ثم أخرج لي دواوين السياب والبياتي ونازك وفدوى طوقان وأمل دنقل وعبد المعطي حجازي وتركني أنهل منها سنوات.. صحبتني إلى بيوت كثيرة وفي بعض رحلاتي التي طالت.. حفظت أشعارهم عن ظهر قلب.. وتربع “السياب” في قلبي… كانت البذور تنمو ببطء.. لكنها لم تظهر على السطح إلا متأخرة وقد بلغت الأربعينيات ولذلك قصة أخرى.

“طَرَابُلُسِيّتِي” مَسْأَلَةٌ جِينِيّةٌ، أسْتَمِدّهَا مِنْ وَالِدِي مُبَاشَرَةً

عزة المقهور .درستِ الحقوق في جامعة بنغازي . هل كان لدراسة الحقوق تأثير في تكوين شخصيتك الأدبية .خصوصا وأنك كنت بعيدة عن محيطك العائلي. وكيف تقيّمين تلك التجربة في بنغازي.؟

لم يكن المجال في الثمانينات متسعا للكتابة . التحقت بكلية القانون وهي كلية ذات مناهج دسمة وتستدعي ساعات طويلة من القراءة والاطلاع. كان النظام الدراسي نظام السمستر/ الفصول وهو ما يعني امتحانات متعاقبة حتى نهاية الفصل الدراسي إضافة إلى قاعات البحث العملية والأبحاث. كنت متفوقة في دراستي التي أحببت مناهجها. من ناحية أخرى فإن حقبة الثمانينات كانت صعبة من حيث المناخ السياسي والاقتصادي الذي أثر سلبا على المناخ العام.. انحسرت الحريات إلى حد كبير حتى كادت أن تتلاشى، وعمّ الخوف في الوسط الطلابي، لذا انغمست كغيري في الدراسة وفي تكوين روابط اجتماعية قوية من كافة أنحاء البلاد. كان داخلي “البركة” ليبيا مصغرة، نشأت صداقات عميقة واختلاط وتمازج واكتشاف للهوية الليبية وتنوعاتها.

كانت تجربة الدراسة الجامعية في بنغازي مميزة وقريبة من القلب، تجربة اكتشاف الوطن. كان القلم مقيدا أما القلب فكان باتساع الوطن.

فِي فَتْرَةِ الثّمَانِينَاتِ كَانَ القَلَمُ مُقَيّدًا أمّا القَلْبُ فَكَانَ بِاتّسَاعِ الوَطَنِ

لديكِ قدرة رهيبة على استخدام الأماكن الضيقة والمساحات المحدودة في رسم مشهد قصصي رائع وبتفاصيل دقيقة فهل بهذه التفاصيل تستحثين القارئ لاستخدام الرؤية البصرية للتعامل مع النص؟.

هذا ما يقوله النقاد، ويسعدني. كنت بمكتبي ذات يوم أكتب قصة بعنوان” فتاة سيدي خليفة”، دخل عليّ القاص والتشكيلي الأستاذ رضوان أبو شويشة، مددت له الورقة قبل حتى أن يجلس، رأيت أساريره تنفرج وصاح بي.. أنتِ كاتبة قصة قصيرة! صدقته فورا فهو شخصية غير مجاملة بطبيعتها..قال لي في حينه تملكين عينا راصدة ودقة تفاصيل. أكملت كتابة القصة ونشرتها وقد تحصلت على شهادة رأيتها مهمة آنذاك. لا أدري إن كان يتوجب على القاص أن يشرح حالته عند الكتابة أو أن يفسر طريقة كتابته. لكنني على ثقة من أن الرأي للمتلقي، وأنه كما كان يردد والدي رحمه الله إن النص ما أن ينشر فهو ملك للمتلقي يحسه، ويقلبه، ويستمتع به، ويفكر فيه، ويتخيله، ويبني عليه، ويستسلم له، ويستشعره، وحتى يغضب عليه أو لايحبه!

وفي كل الأحوال أنا سعيدة بخصوصية التفاصيل في نصوصي.

ارتباط الأديب بالمكان وبتفاصيله الدقيقة مدخل مهم في قصص عزة المقهور .حيث تشكل مدينة طرابلس المكون الأساسي في إنتاجكِ .ماذا تعني طرابلس لعزة المقهور وما سر هذا الحب الكبير؟

أعتقد أن “طرابلسيتي” مسألة جينية، أستمدها من والدي مباشرة..كان ابن الظهرة بكل ما يحمله المكان من معنى ” الجدعنة والشجاعة والمواقف الحاسمة”. لم أعِ ” طرابلسيتي” إلا بعد عودتي من باريس والتحاقي بالعمل مع والدي.

كأنني تجرعت المكان فجأة حتى الثمالة، أو كأن مشاعر حب غمرتني فجأة..بدأت أسير على قدمي في الأزقة والشوارع، أستعيد علاقتي بالأمكنة: الظهرة، الطنطونة، حي الأندلس، المدينة القديمة، شارع الوادي، ميزران، طريق الشط.. استعدت مكان ولادتي في شارع الشط، بيت جدي لأمي في ميدان الشهداء، طفولتي ببيت جدي لوالدي في زاوية الدهماني، رحلاتي مع عمتي في الكرّوسة إلى سوق المشير، سانية العائلة الملاصقة لجبانة سيدي بوكر، الجامع الذي رممه جدي ومنعت العبث ببنائه بحجة ترميمه واستصدرت له شهادة تاريخية، “الطنطونة” حيث إقامة أعمامي في أملاك العائلة، البحر في السياحية حيث اكتشفت مع إخوتي مواطن صخوره للراحة بعد مسافات السباحة والتسابق. مشيت كثيرا وأخذت بناتي معي إلى سوق الظهرة حيث يأخذني أبي للتسوق، تتبعن معي الزوايا في المولد النبوي، وألقيت بهن معي في بحر طرابلس حيث علمتهن السباحة. كان لزاما عليهن أن يعشن المكان والأهم أن يشربن الماء المالح ويشرقن به حتى يتجرعن المكان ولاينسيْنه أبدا. تسكنني هذه المدينة وأشم رائحتها وأرى ألوانها وأشعر بتبدل الفصول فيها أينما كنت! في قصة قرن الفلفل حاولتِ اللعب على وتر الألغاز .فقد استخدمتِ قرن الفلفل على أنه شخصية اعتبارية صارمة وأحيانا جبانة يختبئ بين وريقات أشجاره.

المَكَاسِبُ السّيَاسِيّةُ إنْ لَمْ تَحْمِهَا وَثِيقَةٌ قَانُونِيّةٌ تَتَبَخّرُ بِمُجَرّدِ حُدُوثِ أيّ تَغَيّرٍ سِيَاسِيّ.

من هو قرن الفلفل الذي يتسلل إلى حياتنا اليوم ؟

كما سبق وأن ذكرت، لا أحب تفسير نصوصي، هي مهمة الناقد بالأساس، كما أنها ملك للمتلقي متى خرجت للعلن. لو فسر القاص نصوصه لأخرجها من البراح الإبداعي الذي يحتمل كل الأوجه إلى الحيز المادي، ولجرّدَها من الخيال والجمال اللغوي إلى النص المباشر ، وبالتالي يفقد النص بريقه. ما يمكنني قوله إنني كتبت في أزمنة مختلفة، كتبت في زمن القيد فكانت قصة “جدار الإسمنت” و”مدينتي الجديدة” و” الميدان” وكتبت في زمن الانتفاضة والثورة فكانت مجموعة قصص فبراير “فشلوم” وكتبت في زمن إجهاض الانتفاضة وهو زمن الحرب ومن بين مجموعة زمن الحرب قصة “قرن الفلفل” و” طماطم يابس” و”عليوة الببغاء ” و” ليم دمّي”و “التاكسيستي” وغيرها، ستصدر قريبا بإذن الله.

تدخن سيجارتها على درجات مبنى الأوبرا وتفلت ضحكاتها في مقاهي سان ميشيل وتغضب في ساحة الكونكورد وتتسول في ميدان فاندوم وتسهر في الطاحونة الحمراء . تتوه في أروقة اللوفر تتأمل لوجه الجيوكندا . تلك هي باريس في صاحبة الفولكس .وكأنكِ تحاولين التغلب على شجن الغربة وتهمسين في أذن الحلم بطرابلس والليم المطرح تحت الأشجار؟

لم تكن باريس غربة بالنسبة لي بل كانت استكشافا للعالم وللذات، كانت بالنسبة إليّ في سن مبكرة فرصة للعلم والثقافة والانفتاح. أحببت مدينة النور كثيرا، التي غمرتني بالثقافة والحرية والأمل.. تماهيت معها حتى شعرت أنني جزء منها، أتقنت لغتها بل لكْنتَها بسرعة فائقة، وقرأت شعراءها وكُتابها، وأحسست بكلمات أغاني فنانيها، وجُبْت متاحفها وندواتها ومعارضها في الهواء الطلق.. احتضنتني باريس كما تحتضن الجميع، باسمة الثغر لكنها صعبة المراس، عليك أن تتعلم لغتها، وتنهل من ثقافتها، وتتطبع ببعض طباعها أو على الأقل تتقبلها. عليك أن تكون منفتحا، أن تبحث وتفتش عنها، أن تتذوق أطباقها وتغني لها وتطرب لموسيقاها وتقف أمام تشكيليّيها معجبا، أن تفرح لانتصارات فريقها لكرة القدم في الشوارع، وأن تغني معها في يوم الموسيقا، وأن تشارك في مظاهراتها أو على الأقل تتعاطف معها.. إن لم تستطع، تتجاوزك وتهملك أو عليك أن تضب حقائبك وترحل!

مَا أخْشَاهُ كَلِيبِيّةٍ، أنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ أبْحَثُ فِيهِ عَنْ جِنْسِيّتِي فَلَا أجِدُهَا.

ألم يحن الوقت بعد هذا الكم من القصص القصيرة كي تقتحم عزة المقهور باب الرواية .خصوصا وأنكِ تملكين مخزونا ثقافيا وأدبيا وتملكين أيضا الأدوات؟

حان الوقت لكنني لست جاهزة بعد. مازلت في خضم دوري الأمومي، ومازلت أعمل في مجالي القانوني، إضافة إلى متابعة هموم الوطن. القصة القصيرة جنس أدبي يتماشى مع ظروفي، إضافة إلى عدم صبري على قُرّائي.. كتلك الطباخة التي تستعجل أن تقدم طبقها وتنتظر على عجالة ما يرتسم على الوجوه من استحسان.. حركة الرأس تغنيها عن أي شكر. قد يأتي ذلك اليوم وقد يكون لدي الوقت – إن كنت أشك في ذلك- وقد لا يأتي ولكنني حتما سأستمر في كتابة القصة القصيرة التي لها مزية خاصة أحبها، قصر قامتها وقوة تأثيرها! ألا تعتقد بأن الكاتب ومنتوجه يتشابهان؟ أين ترى عزة المقهور حافة العالم؟

حافة العالم هي حيث نقف بعد رحلة حياة طويلة، نشعر فيها بالرضا عن النفس، وهي أرفع جائزة ينالها الإنسان. حين يحقق من طموحه ومن أحلامه الكثير، ويتنفس الصعداء.. هي اللحظة الفارقة في عمر المرأة المليء بالتعب والجهد والعطاء والتحديات والعراقيل والإنهاكات والانكسارات.. وهي لحظة الوصول لتحقيق الذات.. هي ابتسامة وراحة ورضا ما بعد منتصف العمر. وقفة عز وتأمل لما هو آت بدغدغة فرح غامر ورغبة في المغامرة من جديد، وبطبيعة الحال بعض من التوجس.

قرأت للكثير من الكُتّاب الليبيين، كما وأنني محظوطة لأنني تعرفت على الكثير منهم من خلال والدي ومكتبه واستمرت هذه العلاقة.

تعج مكتبة والدي بكتبهم في طبعاتها الأولى والحديثة.. أحب قصص الككلي ويوسف عقيلة أعتبر قصصهم ذات مواصفات عالمية.. أحب البيئة الليبية بجمالها وحزنها ولسعاتها ونقدها وحتى جلد ذاتها.. أحببت علي الرقيعي في شخصه وفي شعره.. رفيق والدي وصديقه.. كان عليّ أن أحبه. أحب ثورة شعر سميرة البوزيدي وأبيات فريال الدالي المرتبة.. أزهو بشعر غادة البشتي.. عرفت الجيلاني طريبشان عن قرب وقرأت شعره على الورق.. شاعر عظيم.. أحب أبيات النويصري الهادئة اللاذعة..أما عمر عبد الدائم فهو شاعر يشبه شعراء عكاظ متمكن من أدواته.. أعشق الشعر المحكي وأهيم مع شعر الدنقلي.. وتوحشتك ويا”كامل” أوصافك وين… هذا الشعر المحكي قريب منا جميعا. لا يهمني التأريخ في الأدب.. هو أدبنا جميعا لمن كتب ويكتب وسيكتب.. لدينا جيل جديد رائع، رغم أنه لم يصنف بعد في خانة الأدباء.. وهم ليسوا بحاجة لذلك فوسائل التواصل الاجتماعي صنعت لهم أجنحة للطيران فطوبى لهم.. أنا ذكرت أسماء محببة إلى قلبي، لكن الأدب الليبي غني آخذا بعين الاعتبار عدد السكان القليل، فلدينا كُتّاب عظام لا داعي لتعدادهم قرأت لهم باكرا ومنهم والدي.. قرأت له قصة ” الكرة” فهِمْتُ به، ورأيته عملاقا من يومها لأنه استطاع إبكائي في قصته وزرع فيّ بذرة إنسانية منذ ذلك اليوم!

لا تكاد عزّة أن تفرغ حقائب سفرها حتى تعيد ترتيبها من جديد للسفر على عجل كيف تدير عزة الوقت بين سفر وكتابة والتزامات الأسرة .ألا تتعبين؟؟

أنا أبتسم الآن من سؤالك.. أعتقد أننا نختار إلى حد ما حياتنا، وإن كنا لا نستطيع أن نتوقع إلى أين ستأخذنا.. المرأة بطبيعتها مدبرة، ومتعددة الوظائف والمواهب، ولديها فن الإدارة وحسن التصرف.. أؤمن بأن الله معنا طالما أن نوايانا حسنة.. أحب السفر كثيرا فهو انطلاق وحرية إضافة إلى أنه ثقافة مهمة تغير أنماط تفكيرنا، وتدخل النور إلى عقولنا..لكن أحب أن يكون لي مركز أسري يشع حبا ودفئا واستقرارا، والأهم أنني أتنفس بعمق في حياتي ولا ألهث استعجالا.

هل تؤلمك الغربة عزة المقهور ولمن تشتاقين؟

نعم تؤلمني هكذا وبكل بساطة .. لأنني لم أخترها. لا أريد أن أسترسل فيما يؤلمني وأفضل التكيف مع وضعي الجديد حتى وإن أجبرت عليه. أؤمن أن لكل طارئ في حياتنا حكمة ولا أعرف بعد الحكمة من وراء غربتي هذه لكنني أؤمن أن وراءها أمر إيجابي سينجلي ذات يوم.. أشتاق لحياتي اليومية التي اخترتها وأحببتها.. أصحو على صوت عصافير الشجرة المقابلة لغرفة نومي، ودغدغة شمس صباح طرابلس.. قيادة سيارتي بمحاذاة طريق البحر، الميناء، المدينة القديمة على يميني، جسر الودان ثم الظهرة ومنحدر “البراوية” ومكتبي.. ضجيج تلاميذ مدرسة الظهرة وقت ” المرواح”، هدوء الظهيرة في الظهرة.. نشاط العمل وحيويته.. زيارات الناس المتنوعة بين القانون والأدب والأصحاب .. أكواب “الشاهي” بالنعناع.. الزملاء .. المحاكم.. لقاء الأصدقاء، العودة إلى البيت وصراخ البنات فرحا بعودتي.. زيارات الأقارب والأعياد. ليس سهلا أن يتغير نمط حياتك بالكامل.. وتبدأ طريقا آخر وتتمنى كل يوم أن يصلك هذا بالطريق الذي عرفته وأحببته واشتقت إليه. أؤمن أن هناك زقاقا ما سيصل ما بين الطريقين.. لن أنتظر، سأستمر حتى أصل إليه بإذن الله.

من وجهة نظر سياسية واجتماعية كيف ترى عزة المقهور مسيرة المرأة الليبية في الوقت الحاضر؟

مايهمني هو المسار القانوني وخاصة المسار الدستوري. المكاسب السياسية إن لم تحمها وثيقة قانونية تتبخر بمجرد حدوث أي تغير سياسي، مكاسب مؤقتة تعتمد على السياسيين بشكل خاص، أما المكاسب الاجتماعية فهي الأقوى لأنها تأخد وقتا كافيا لتنضج، تحتاج لوعي مجتمعي متكامل وقبول عام، هي أشبه ما يكون بالعرف الراسخ، وبين المنزلتين هناك المسار القانوني الذي يحقق حماية ومكسبا قويا في فترة زمنية قصيرة نسبيا وفعالة، وقادرة على الدفع بالتغيير الاجتماعي. هذا ما حدث في ليبيا في السبعينيات على وجه الخصوص. لذلك أنا أركز على الجانب القانوني وأدفع به بقوة، وأطمح كغيري من النساء في بلادي اللاتي يشكلن حوالي نصف عدد السكان في دستور حقوقي عصري، يواكب متطلبات العصر ويرسخ المكاسب التي تحصلت عليها المرأة الليبية منذ الاستقلال ويضمن حقوقا استنادا للمواثيق الدولية التي انضمت إليها ليبيا. إن أي تراخٍ في ضمان حقوق المرأة هو إضعاف لمركز ليبيا على الصعيد الإقليمي والدولي في حين أن ليبيا بحاجة ماسة للدعم الذي لن يكون إلا من خلال نسائها ورجالها معا. اليوم، تعيش بلادي حالة حرب وصراع دموي والخاسر الأكبر فيه أبناؤه والأكثر تضررا نساؤه .. هكذا تقول أدبيات الحروب وحقائقها وليبيا ليست استثناءً.

عندي شعور بأن عزة المقهور تتألم لما يجري على الساحة السياسية في ليبيا .هل مِن أفق للحل من وجهة نظر محامية وكاتبة تتمتع بعلاقات دولية مع نخب سياسية في العالم؟

ألمي من ألم الليبيين.. نحن شعب قليل عدديا وبسيط لا نحتمل الحروب. لا عدد سكانٍ كافٍ ولا اختلافات حقيقية يمكن أن تكون وقودا للحروب. المتربصون بنا كُثر، والثروات وافرة، وفرصة الازدهار متحققة، لكن العقول والنفوس ضعيفة على مستوى أدوات الحكم. مشكلة ليبيا ومفتاح حلها جغرافيتها، وهذا يعتمد على العقل في استخدام الجغرافيا وتطويعها إيجابا أو الاستخفاف بها لنصبح نسيا منسيا. ليبيا يمكن أن تكون مركزا للمعرفة، انطلاقا من أمرين موقعها الجغرافي في قلب العالم، وأن أغلبية سكانها من الشباب وهو أمر مميز جدا لليبيا. أي أن الهدف يحب أن يكون في ترسيخ الموقع الحغرافي والأغلبية الشبابية ( المجتمع الشبابي) للمعرفة، لتصبح ليبيا مركزا للمعرفة. ما أخشاه كليبية، أن يأتيَ يوم أبحث عن جنسيتي فلا أجدها. هناك قوميات اندثرت، وشعوب انعدمت، وهويات ضاعت، وأراضٍ سُرقت، ومخططات ومؤامرات نفذت. كيف لشعب صغير وضعيف أن يقاوم محيطه؟ علينا أن نحافظ على وجودنا الآن وأن تنصب خطة الحل على هذا الأمر أولا. أسوأ طريق حاليا هو تدويل الحلول، وأن نفقد قرارنا الوطني. علينا بكل الوسائل المتاحة أن نستعيد قرارنا الوطني وأن تكون الحلول الدولية عملية مساعدة وليست لتحديد مصيرنا.

اللقاء مع عزة المقهور له محاذيره.فبالرغم من أنها امرأة قوية ومثقفة وأدبية ومحامية إلا أنها شديدة الحساسية لمجرد ذكر رحلة الاغتراب. عزة المقهور تحب طرابلس كما لا يحب طرابلس أحد .فحتى ضجيج أطفال المدارس كان بالنسبة لها نوته أو نغم موسيقي يلهب مشاعرها . وفي اعتقادي أن عزة كالمراهقة في حب طرابلس .هي كقطعة حلوى لطفل تعشقها حتى آخر كأس . طرابلس بالنسبة لعزة شوارع وبحر وموانئ ومثقفون وبحارة ومراكب وإسفلت وتراب وشجر وزهر وحِنّة وهواء .وأعتقد أن طرابلس أيضا تفتقدها .ليتنا مثلها في عشق طرابلس . إلى الملتقى.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :