خاص فسانيا : نيفين الهوني : تونس
اختتم على مسرح دقة الأثريّ مهرجان دقة الدولي للموسيقا في دورته السابعة والأربعين بحفل جماهيري حاشد للفنان العالمي التونسي ظافر يوسف والذي انطلقت فعالياته عند العاشرة مساء ، السابع والعشرين من شهر يوليو الماضي في المدينة الأثرية ، وضم على مدى أسبوعين عروضا من المالوف والراب والجاز وبلوز والفن الشعبي بالإضافة إلى الموسيقا الآلاتية العربية.

ويعد مهرجان دقة الدولي مهرجانا سنويا للموسيقا ينتظم كل عام من أواخر يوليو حتى الثلث الأول من شهر أغسطس بالمسرح الرّوماني بمدينة دقة الأثريّة التّابعة لمعتمديّة تبرسق من ولاية باجة حيث ضم المهرجان هذا العام فنانين من دول عربية و منهم (الفنان زياد غرسة والفنانة فايا يونان من سورية، والفنانة سعاد ماسي من الجزائر، والفنان نضال اليحياوي والفنان مهدي عياشي والفنان محمد علي شبيل والأخويْن الفنانين نور وسليم عرجون ومغني الراب كريم كازو من تونس.

وفي تصريح لمدير الدورة 47 لمهرجان دقة الدولي الأخ مختار بالعاتق لوسائل الإعلام في الندوة السابقة لانطلاق فعاليات المهرجان قال : إن الميزانية تبلغ هذا العام نحو 600 ألف دينار تونسي وتوقع حضور حوالي 30 ألف متفرج، 15% فقط منهم أجانب كما أشار إلى أن ميزانيته تطورت من 150 ألف دينار عامي 2020 و2021 إلى 400 ألف دينار خلال السنة الماضية (2022) لتبلغ هذا العام نحو 600 ألف دينار.

دقة التاريخ والحضارة والفنون.
يعد مهرجان دقّة الدّولي من أقدم و أعرق المهرجانات الذي انطلقت أوّل دوراته عام 1920 وضمت عروضا كوميديّة فرنسيّة . كما شهد مسرحها الذي يعود تأسيسه إلى القرن السادس قبل الميلاد، ويتسع لأكثر من 3000 متفرّج صعود العديد من الفنّانين الأجانب المقيمين في تونس إبان الاستعمار الفرنسي واستمرت إقامة تلك العروض خلال فترة الاستعمار الفرنسي لتونس، وحتى بعد استقلالها عام 1956 وتاريخ المنطقة الثريّ والمتنوع بين البربر والنوميدية والغينية والبونية والرومانية القديمة والتاريخ البيزنطي، هو ما جعل منظمة اليونيسكو تدرجها ضمن مواقع التراث العالمي سنة 1997.

و”دقة” أو “توغّا” كما يقال إنه مستمد من لفظ أمازيغي يعني الجبل الصخري وقد كانت دقة كما جاء في كتب التاريخ مُستوطنة بشريّة مهمة، ومما يدلُّ على طابعها الحضري، هو وجود مقبرة فيها مذبح صخري للقرابين، وهي الاكتشاف الأثري الأشدّ قدماً في دقة، وكان مُخصّصاً للبعل حمون، إله الخصوبة والمحاصيل في ديانات شمال أفريقيا. كما توجد المسلات والشظايا المعمارية وضريح ومعبد مخصص لماسنسيا، وبقايا كثيرة تم العثور عليها خلال الحفريات الأثرية أما مسرحها ففي عشرينيات القرن الماضي، أقيمت أولى العروض المسرحية والموسيقية على المسرح الروماني في موقع دقة الأثري .

وعرف المهرجان نجاحا بارزا ، خاصة في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ، حيث استقبل في سنة 1976، الدورة الأولى من “مهرجان دقة الدولي”؛ بعد أن انتظمت دوراته ثلّة من أهمّ الفنّانين العرب مثل ماجدة الرومي ودريد لحام وعبد الله غيث وأمينة رزق وصباح الجزائري و غيرهم من مشاهيرالمسرح الفرنسي الكلاسيكي . وفرق لتقديم الموسيقا الكلاسيكية الغربية، وفنون الطرب الشرقية، بالإضافة إلى انفتاحه لاحقاً على أنماط موسيقية معاصرة.

مشاركات عربية بموسيقا تارقية وغربية.
من العروض التي ضمها المهرجان حفلا لفرقة “المربع” الأردنية والتي وقع تأسيسها عام 2009 كفرقة روك عربية وتضمّ عازف البيس محمد عبد الله، والإيقاع زيد مسيس، والغيتار إيام حمام، والكيبورد باسل ناعوري، ولديها العديد من الألبومات التي تضمّنت أغانٍ سياسية وواقعية حياتية يومية وقد أطلقت ألبومها الأول المربع عام 2012 ثم عام 2015 أنتجوا ألبومهم الثاني الذي حمل عنوان طرف الخيط ضمن حملة تمويل جماعية بعدما اكتسحوا المنطقة العربية بألبومهم الأول وحققوا قاعدة شعبية جماهيرية من المعجبين.

وضمت العروض العربية أيضا فرقة “باب لبلوز” المغربية الفرانكفونية التي تغني نمط أغاني البلوز الأفريقية برشاقة، وقد أطلقت على أول ألبوم لها اسم “نايضة” وهو نفس اسم حركة موسيقية في المغرب ناشئة، ويعني في الدارجة المغربية “الحفلة” وكذلك يرمز إلى “الصحوة الفكرية”وجمعت هذه الفرقة في أغانيها بين روح الموسيقا المغربية التقليدية والقناوة والبلوز، والإيقاع التراثية حر القناوة و شيئا من البلوز الموريتاني والقمبري القائم أساسا على الآلات الإيقاعية وتعتمد هذه الموسيقا على مشروع موسيقا الطوارق. و العديد من الأغاني التي تحاكي الواقع العربي اليومي تتحدث عن عديد القضايا منها حقوق النساء والفساد.

أما الفنانة السورية فايا يونان فقد أطربت الجمهور العاشق لأغانيها والذي ملأ مدرجات المسرح الروماني في دقة متفاعلا معها بالتصفيق المتواصل والتصفير مشجعا وشدت باللهجات السورية والمصرية والتونسية والعراقية وبأغنياتها التي يحفظها عن ظهر قلب ( “ياليته يعلم ” و”في الطريق إليك” و”نفرح برشا” و”طير قلقان” حيث غنى معها وخاصة حينما غنت للراحل الصغير أولاد حمد نحب البلاد كما لايحب البلاد أحد وحدثت الجمهور عن علاقتها بالأغنية ولبت طلبه بالغناء غنيلي غني” و”آلو” لبلطي وقد غنت الفنانة التي تؤثث فضاء مهرجان دقة لأول مرة بقيادة المايسترو محمد الأسود صحبة فرقة موسيقية تونسية.

تفاعلت الفنانة وعازفة الجيتار الشاعرة الغنائية الجزائرية سعاد ماسي مع جمهور مهرجان دقة الدولي للموسيقا والذي لازال يذكر حضورها عليه أول مرة منذ 5 سنوات مضت حيث غنت معه باقة من أبرز أغنياتها الصادرة في ألبومها سيكانا بالإضافة إلى أغانيها الأخرى باللغة العربية واللهجة المصرية والجزائرية واللغة الفرنسية أيضا وأغاني عالمية مترجمة لفنانين من تشيلي وأمريكا والمعزوفات الفردية للفرقة التي رافقتها والتي تكونت من 5 عازفين قدموا مقطوعات موسيقية لعزف الكمان والجيتار واختتم الحفل بأغنية غير انت نزولا عند طلب الجمهور الغفير.

عروض تونسية متعددة ثرية حاشدة ومتفردة.
فنان المقامات وافتتاح مهيب
افتتحت العروض في مهرجان دقة الدولي للموسيقا في دورته الـ47 بحفل موسيقي للفنان التونسي زياد غرسة والذي يعرف عنه أنه تعلّم المقامات والموشّحات في عمر الرابعة عشرة، وقدّم مع العديد من الفنانين التونسيين والعرب أعمالاً تنتمي إلى الموسيقا الأندلسية والمالوف، إلى جانب تقديم مؤلّفاته الخاصة ومعزوفات على العود والكمنجة والتشيلو والبيانو والناي حيث قدم باقة من أغانيه الجميلة والمعروفة لدى الجمهور التونسي والعربي على حد سواء مثل “علاش تحيّر فيّا”، “ترهويجة”، “عزيّز قلبك ما صابني”، والأغاني المعروفة لكبار الفنانين التونسيين مثل “ملاك يا ملاك” و”يا منيّرة” للفنان هادي قلال، “اللي تعدّى وفات” للهادي الجويني، “روح من السوق عمار” للفنان هادي حبوبة حيث قدم من خلال الحفل الموسيقا الأندلسية والتونسية والصوفية وأغاني المالوف هذا الفن المشترك بين تونس و ليبيا والجزائر وما يعرف في تونس بالتعليلة ومنها مايغنى في المولد النبوي وفي الختان وفي الأعراس.

الراب والريغي ونجاح مميز
أما حفل السادس من أغسطس في المهرجان كان لفنان الراب التونسي بلطي ، الذي صعد على الركح وسط عاصفة من التصفيق الحار والهتاف الجماهيري ترحيبا به وضم حفله أغانٍ متنوعة فمنها التي أدّاها منذ انضمامه إلى فرقة “أولاد بلاد” وهي من أولى فرق الراب في تونس، ومنها أطلق ألبوماته اللاحقة حيث تطوّر أداؤه ودمج أنماطاً مختلفة من الموسيقا الشعبية والراب وحتى الريغي أيضا واستطاع دمج مختلف الأعمار في بوتقة محبيه من الوطن العربي وليس تونس فقط وقد تنقل بالتي بجمهوره في حفله بين محطات من حياته الفنية منذ انطلاقه للآن وغنى شافوني زوالي مع الفنان أكرم ماغ ويا ليلي مع الطفل حمودة وياحسرة وحلمة وغريب علي التي غناها مع الفنانة الفلسطينة إليانا.
وأحيا كاسو مغني الراب التونسي واسمه الحقيقي عبدالكريم بوزيان حفلا ضمن برنامج المهرجان، وقد بدأ مسيرته في موسيقا الراب من خلال كتابة أغانٍ مستوحاة من حياته وبيئته ومن أبرز أغانيه ماعليكش لوم، وصرح الفنان الذي لا يحب أن يقيّم أعماله أحد في أحد حواراته الإذاعية بأنه لا يفرق في الموسيقا ولا يعترف بوصف ”الموسيقا التجارية” وأنه يغني أي نوع يعجبه، وقناته على موقع اليوتيوب ليست مورد رزقه الوحيد ودخلها لا يكفيه لتصوير أغانيّ أو إنتاجها، ويعد الفنان الصاعد والذي بدأ مسيرته منذ قرابة الست سنوات، من الفنانين المتفردين في الراب بأسلوب كتابةٍ مختلف حميمي وجذاب، متنقلا بين الغضب والرضا وبين الحنين والتخلي في ومضات لصيقة بالبيئة التي تربى فيها والتي خلقت له جمهورا داعما وخاصة وسط الأحياء الشعبية والأصيلة منذ البدايات حتى الآن.

الفن التونسي الأصيل عندما (طلت الباهية)
أما الموعد الاستثنائي حقا وكما صرحت الفنانة الكبيرة قبل العرض بأيام فقد كان مع الفنانة الباهية نبيهة كراولي وقدمت خلاله العديد من طربيات أعمالها القديمة والجديدة حيث استقبلت من الجمهور الغفير الذي جاء من مختلف ولايات تونس وحتى من جاليات الوطن العربي وخاصة مصر وليبيا بحفاوة وحب و ترحيب كبير ورافقتها فرقة ”مزّيكا” بقيادة المايسترو خالد بن عيسى، وانطلق الحفل الذي غلب عليه طابع الأصالة والموسيقا والغناء التونسي الأصيل بأغنية “متشوقة” وعبرت فيها عن شوقها وحبها واعتزازها لكل الجمهور الذي ضم مختلف الشرائح العمرية والفئات الاجتماعية في فسيفساء فنية نابضة بالحب ثم توالت الأغنيات المحبوبة لدى جمهورها التونسي والعربي أيضا مثل “الأيام والمكتوب” حيث تأثرت الفنانة أثناء غنائها وانهمرت دموعها منسابة مع موسيقا الأفئدة العاشقة والتي آزرتها بالتصفيق والتصفير والغناء معها أيضا وأغنية “شفتك مرّة” و “هز عيونك” و “واش” و “هاي طلّت الباهية” لأول مرّة تؤديها خصيصا لجمهورها الحبيب ثم أهدته أغانٍ أخرى نزولا عند رغبته على الرغم من أنها غير مبرمجة في أغاني الحفل مثل “يا سعد” و”الممرضة” حيث لاقت استحسان الكورال الذي ضم أكثر من 3000 شخص غنوا بتمازج وتمايل وتناغم طوال ساعتي الحفل والوقت الإضافي الذي أهدته نجمتنا لجمهورها الحبيب لأكثر من 40 دقيقة أخرى امتزج فيها الغناء بالحديث العفوي مع الجمهور وردودها عليه في سعادة ظاهرة للعيان عبر ابتسامة لم تفارقها وحركات تلقائية فعلتها كطفلة طروب. وفي تصريح لها بعد العرض تحدثت الجميلة حضورا وروحا وقلبا عن المنطقة وجمالها وخصوصية المكان وتأثرها بذلك وعشقها لتونس ولتاريخ تونس وآثار تونس وحضارتها قائلة فيما معناه ”دقة لها روح خاصة أثرت عليّ فالأماكن الحاضنة للتاريخ وللعناوين الكبرى وللحضارة الموغلة في القدم ، تحاكي شخصيتي وتتماهى مع فني وكل الأماكن التونسية المماثلة لها تأثير عليّ’
عشر مواهب تونسية في الكابتول.
احتضن موقع أثري آخر في دقة في إطار المهرجان بحضور لفيف من السفراء والوفود العربية والأجنبية عرضا للأزياء بموقع الكابتول لأول مرة في تاريخ المهرجان وذلك بهدف تثمين الموقع الأثريّ وجلب جمهور عارضي الأزياء والمولعين بها للمكان مساهمة في خلق جمهور جديد ومتنوع يزور هذا الموقع ويدعم التسويق له وقد أبدع في العرض 10 من مصممي الأزياء التونسيين الموهوبين بمشاركة عارضي أزياء من دول مختلفة من العالم في إطار دعم الحرف اليدوية و حيث الاحتفاء بالأزياء والإكسسوارات وإبراز الأهمية التاريخية للموقع الأثري عبر تصاميم مشروع تونس الإبداعية والممول من الاتحاد الأوروبي والتعاون الإيطالي وينفذ عن طريق منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية بالشراكة مع الديوان الوطني للصناعات التقليدية.
في عشق دقة
وبين اختلاف المؤرخين على أصل تسمية دقة بين ما ذكر في أحد المواقع الإلكترونية والذي يقول إنه وفقاً لبعض المؤرخين، فإن الاسم الزائل للمدينة كان “تبغ” وهو مستمد من كلمة ليبية قديمة تعني الحماية، نظراً لوجود المدينة على قمة هضبة يمكن الدفاع عنها بسهولة.وبين رأي آخر لمؤرّخين يعتقدون أن المدينة تأسّست في القرن السادس قبل الميلاد يقولون إن اسم دقة كان “توكاي” باللغة اليونانية القديمة، وقد وصفها ديودورس الصقلي، بأنها مدينة عظيمة وجميلة تظل دقة بتاريخها وحضارة ساكنيها على مر التاريخ وعراقة مسرحها ومهرجانه الأصيل حكاية معشوقة سطرت هيام فناني العالم بها على جدران مسرحها بمعزوفات من تألق وإبهار.