عوامل القوة والضعف في الكيان الليبي

عوامل القوة والضعف في الكيان الليبي

الطاهر عريفة

 المجتمع الليبي كغيره من المجتمعات البشرية يخضع لقانون الصيرورة العام يتأثر ويؤثر بما يجري حوله وفي داخله، وهذه الصيرورة تخضع لمبدأي القوة والضعف ولكن المهم هو قدرة هذا المجتمع على تجاوز الصعاب وتحدي المعوقات. واليوم ما أحوجنا إلى دراسة متأنية لفهم هذه الصيرورة وهذه المتغيرات وتأثيرها على الساحة الليبية، ومحاولة توظيف ذلك كله من أجل الخروج من الأزمة الراهنة التي يمر بها هذا الوطن، ولا يمكن إدراك ذلك إلا بالرجوع إلى المسار التاريخي لهذا المجتمع، وسبر أغوار كوامن القوة فيه وتوظيفها للحد من عوامل الضعف التي تتناوب تباعاً على سائر المجتمعات البشرية بفعل مبدأ الصيرورة والتغير ومفهوم القوة والفعل. في الجغرافيا السياسية تتكون ليبيا من ثلاثة مناطق حضرية، الشريط الساحلي وعليه مدن زوارة، الزاوية، طرابلس، الخمس، مصراتة، بنغازي، درنة، وهذه المدن تمتاز بميزتين أولاهما أنها مدن متوسطية لها علاقة بما يجري في حوض البحر الأبيض المتوسط، بيوت المال، التجارة، والتبادل الثقافي والمعرفي، والعلاقات البحرية- أي أنها منفذ ليبيا على العالم الخارجي- والميزة الثانية لهذه المدن هي: تمتين العلاقة بين الساحل والمناطق الداخلية.

ومنطقة الوسط وهي منطقة رعوية زراعية تعتمد على مياه الأمطار وتتعرض للجفاف بين فترة وأخرى مما يؤثر على الناس ودوابهم مما يضطرهم إلى اللجوء إلى الساحل أو إلى مناطق الواحات. وهم مادة لعدد من الثورات والصراعات القبلية التي شهدتها البلاد، ومعين لا ينضب ضد كل التدخلات الأجنبية التي واجهت ليبيا. والمنطقة التي تتكون من واحات الجفرة، غدامس، وأوجلة وسبها ومرزق وأوباري. أهلها يمارسون النشاط الزراعي نتيجة لتوفر المياه الدائمة مما يجعلهم يميلون إلى الاستقرار في قرى ومدن متكافلة. وهذه الواحات هي الطريق الرابط بين مدن الساحل وبلدان أفريقيا جنوب الصحراء، بما يحتاج ذلك إلى إقامة سلطة مركزية في هذه الواحات. مملكة جرمة، مملكة زويلة، مملكة مرزق، من أجل تأمين مسارات هذا الطريق الحيوي للتجارة الدولية.

إن فلسفة التاريخ تعلمنا أن سنوات الاستقرار في حياة الشعوب تتبعها بالضرورة سنوات من الأزمة والاضطراب في غياب مؤسسة حكيمة تحقق قانون الإصلاحات المستمرة، وتتولى استبدال الحياة البالية بأشكال جديدة تتفق مع مضمون الشعب، ويحدث الانفجار والثورة، عندما يختل التوازن وتتغير المفاهيم وذلك ناتج في الأساس من انهيار السلطة المركزية، وتمرد القبائل وسنوات القحط والجفاف، وزيادة الضرائب.

وفي الحالة الليبية فإن انهيار السلطة المركزية في طرابلس العاصمة كان دائماً مؤذناً بالانهيار الأمني، والتفكك السياسي، وظهور الزعامات القبلية والدينية التي تطمح دائماً بأن يكون لها تواجد على الساحة السياسية. ومنذ سنة 1711م، عندما استطاع أحمد باشا القره مانلي مؤسس الدولة القره مانلية من القضاء على الفتن الداخلية في طرابلس وبرقة وفزان. استطاع هذا الشاب الطموح أن يؤلف ما يسمى (بالكيان الليبي) على حسب تعبير الكاتب المرحوم عبدالله القويري. وقد عددت سمات هذا الكيان الثقافية والحضارية في المؤلف الذائع الصيت “التدكار فيمن ملك طرابلس وما كان بها من الأخيار” لابن غلبون معاصر أحمد باشا القره مانلي ومستشارهِ.

لقد اهتمت الدولة القره مانلية بشيئين رئيسيين هما إنشاء أسطول بحري قوي، وممارسة القرصنة في البحر الأبيض المتوسط ضد السفن الأوروبية، والثاني الاهتمام بطريق القوافل الرابط مع البلدان الأفريقية. لكن هذا الأمر لم يدم طويلاً، لقد تم اكتشاف خليج غينيا وأصبح التجار الأوروبيون يفضلون هذا الطريق الآمن الذي يمر حول شواطئ الأطلسي للعبور إلى مناجم الذهب في غينيا والمتاجرة رأساً مع الأفارقة دون وساطة دول شمال أفريقيا. بالإضافة إلى عقد مؤتمر برلين سنة 1815م الذي حرم تجارة الرقيق. عندها بدأت السلطة القره مانلية في الانهيار. تم القضاء على دولة أولاد أمحمد في مرزق سنة 1812م وثارت القبائل التي تقطن المنطقة الوسطى وهددت حتى العاصمة طرابلس. عندها وعندها فقط رجعت ليبيا إلى السلطة العثمانية المباشرة سنة 1835م.

وهكذا أصيبت البلاد في أهم موردين لها ألا وهما تغيير طرق تجارة القوافل الدولية، وتحالف الدول الأوروبية ضد القرصنة في البحر المتوسط، فلم تأت سنة 1911م إلا والبلاد في أسوأ أزماتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية مما مهد للاحتلال الإيطالي سنة 1911م، لقد انتهج المستعمرون الإيطاليون سياسة القمع، والأرض المحروقة مما سبب في إفراغ البلاد من سكانها نتيجة للهجرة والمجاعات المتكررة، وحتى عندما تنفست البلاد الصعداء سنة 1951م كانت التركة كبيرة حيث الجهل والمرض والفقر، ورغم محاولة الأنظمة المتعاقبة معالجة هذه الأزمات إلا أنها لم تفلح في ذلك. وفي سنة 2011م أدى ما يسمى بالربيع العربي إلى قيام ثورة في تونس تلتها ثورة في مصر، وفقدت بالتالي ليبيا جناحيها الإقليميين فانهارت العاصمة طرابلس، وبانهيار العاصمة انهارت البلاد نتيجة لعدم وجود مؤسسات تشريعية أو أمنية تبسط سلطتها وتردع المخالفين.

ودخلت البلاد في حالة من الأزمة التي تعقب عادة حالة الهدوء والاستقرار حيث اختل التوازن بين حياة الشعب ومضمونها المتغير، فوقعت فريسة للفوضى والتقاتل، عندها بدأ الزعماء القبليون والجهويون وأصحاب الأجندات المختلفة يستغلون حالة الفراغ هذه مما نتج عنه هذا الكم الهائل من الفوضى والتخبط المجتمعي والسياسي والاقتصادي. واليوم تدعونا الحاجة لمراجعة أسباب القوة وأسباب الضعف في هذا الكيان حتى يمكننا إعادة بناء هذا الوطن على أسس سليمة مستفيدين بما يمتاز به هذا الكيان وهذا الوطن من نسيج اجتماعي متماسك متمثلاً في قبائله وعائلاته، في بدوه وحضره، في ساحله وصحرائه، في مدنه وقراه، في ثرواته الواعدة، في مميزاته الثقافية، في تسامحه الديني، وفي بعده الحضاري العربي والأفريقي والإسلامي.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :