غَلاَ اللّي مَا خَلفْ سَيّة

غَلاَ اللّي مَا خَلفْ سَيّة

كتب :: محمود السالمي 

الأغنية الشعبية في ليبيا حالها حال الأغنية الشعبية في باقي مناطق الوطن العربي تزخر بعديد المفردات والمعاني التي تؤهلها لاحتلال مكانة بارزة في الساحة الفنية .. فهي كلمة ملتزمة . . وهادفة .. وذات جذور ضاربة في العمق .. وتتغنى بالقيم الأصيلة للتراث .. وقد يسجل بعضاً منا ملاحظات تتعلق بأن الأغنية الليبية تبالغ في استخدام العبارات المعبرة عن حالات الحب والهيام إلى درجة أنها تخرج عن المعتاد في الوصف متناسين أن جماليات الأغنية في أن تكون مجنحة تأخذ نحو الخيال منحى يعطيها الطابع الذوقي والجمالي للأغنية .. ويسجل لنا التاريخ العربي حتى في القصائد العربية المغناة مبالغات نذكر منها على سبيل المثال قول الشاعر كُثير عزة : لو يسمعون كما سمعت كلامها خروا لعزة رُكعاً وسجودا أو قوله : لو أن عزة خاصمت شمس الضحى فى الحسن عند موفقٍ لقضى لها أو قول حاتم الطائى : يضيء لها البيت الظليل خصاصه إذا هي ليلا حاولت أن تبسما وكل هذه المبالغات مسموح بها طالما أنها تضفي جماليات جدية على الحالة الشعرية التي يعيشها الشاعر .. وفي الأغنية الشعبية تصل المبالغة حدّها الأقصى حينما يتصور شاعر الأغنية أن المرأة التي أحب لم ترتكب ذنباً ولا إساءة لأي مخلوق كان ويأخذ ذلك حجة وذريعة لأن يحبها. استمع معي لهذه الأغنية الشعبية ذات المنشأ الجفراوي والتي يقول مطلعها : ذبلني لين جار عليا.. غلا اللي ما خلف سية. وهو هنا يقول إن ( غلا ) أو حب الإنسانة التي أحب قد جار عليه وظلمه حتى أصابه بالذبول والضعف ونحول الجسم خاصة وأنها قد رحلت وتركته دون أن يحصل بينهما إساءة ولا عتاب ولا جروح ولكي يتضح المعنى يمكن للمستمع الكريم أن يقرأه هكذا : غلا اللي ما خلف سية.. ذبلني لين جار عليا. ثم يقول : جار جور غلاك يامنسيني الأول حولتا ما باش أيحول على الدوم ناره مقدية كلمة ( جار وجَوِرْ ) التي ابتدأ بها الأغنية تفيد التأكيد على جور المحبوب على من يحب .. ويبدو أن لهذا الشاعر حبيبة قبل هذا الحب ليقول ( غلاك يامنسيني الأول ) أي أن حب هذه المرأة التي جار حبها عليه أنساه حبيبته الأولى وقد حاول أن يزيل حبها أو يزحزحه من مكانه الذي هو قلبه فلم يفلح ( حولتا ما باش أيحول ) ونيران هذا الحب دائمة الاشتعال ( على الدوم ناره مقدية ) . جار بريا غلا ممشوط القطايا يابو عين اتقول دوايا يا بو خد اشقع ضيا فهذا الحبيب الجائر في صده وممانعته في وصال الحبيب هو جائر في رأيه أيضا الذي أوصله لهذه القناعة التي ترى رأيا ً كهذا ، لذا قال ( جار برايا ) والعامة في بعض الكلمات تخفف الهمزة وتقلبها ( ألفاً ) كما هو الحال في لفظة ( رأي ) التي تصبح في العامية راي ( ورأس ) التي تصبح راس وغيرها .. ثم

يصف المحبوب بأنه ( ممشوط القطايا ) وممشوط أي مظفورا والقطايا تعني الظفيرة أو السالف ثم يواصل الوصف فيقول ( يابو عين اتقول دوايا يابوخد ايشقع ضيّا ) فعين هذه الحبيبة واسعة وكبيرة لذلك يشبهها ب( الدوايا ) وهي وعاء من المعدن صغير يستخدمه حفظة القرآن في الكتاتيب قديما لحفظ الحبر ويغمس فيه القلم الذي يصنع من ساق نبات القصب ويُتخذ له رأسا مدبباً ويكتب به على اللوح فالوعاء والقلم يسميان دوايا لذلك فإن الشاعر يعني بقوله ( يابو عين أتقول دوايا) تشبيه العين بهذا الوعاء الذي يسيل منه الحبر الأسود أو هو يعني أن عين الحبيبة هي من السحر والجمال والدقة حتى كأنها مرسومة بدوايا حافظ القرآن .. أما كلمة ( ايشقع ضيا ) فإنه يكرر وصف خد المحبوبة ، بأنه يبرق كالبرق في الظلام ثم يضيف : جار بروحه يامنا صابتني دوخة ضربني على الجاش بروحه وفرغ فيا بغدرية. يصف الشاعر حبيبه في هذا البيت بأنه حبيب جائر ( بروحه ) أي جائر بنفسه وليس نتيجة ضغط أو وشاية من أحد لذلك فإنه يشعر بأنه مصاب بما يشبه الضياع وعدم الفهم ( ومنا صابتني دوخة ) ويشبه نفسه بالمصاب بعيار ناري في صدره ( الجاش ) أفرغه الحبيب من ( غدرية ) أي من بندقية أو من فوهة السبطانة لسلاح ( الغدارة بريتا ) وهي سلاح إيطالي الصنع معروف . جارك يا عم غلا لسبط مسموت الفم اللي لابس في ايديه ختم علينا ما يصعب جيه . وفى هذا البيت يخاطب الشاعر ( العم ) وهو هنا لا يقصد العم الذي هو أخ الأب وإنما يقصد به الرجال عامة ، إذ يستخدم الرجال لفظتيْ ( العم والخال ) في خطاباتهم المعتادة فيقولون مثلا ( أحكي يا خال ) دون أن يكون المُخاطب خالاً للمتحدث .. لذلك أدرج الشاعر هذا اللفظ ضمن الأغنية ثم يواصل فيقول ( غلا لسبط مسموت الفم ) أي أن الشاعر يحس بالجور من حب ( لسبط ) والأسبط لفظة تقال للرجل والمرأة بلفظ المذكر ويقصد بها المتناسق الجسم الرشيق ذا الهندام الحسن الجميل الطلعة ، حبيب هذا الشاعر بالإضافة إلى صفاته السابقة يحمل أيضا صفة أخرى عبر عنها بأنه ( مسموت الفم ) أي يزينه الصمت والسكون والهدوء والسكينة وكلها صفات تدل على الرزانة والعقل .. ولفظة ( مسموت ) عامية مشتقة من العربية ( مُصْمَتْ ) أي الصامت .. ثم يقول: ( اللي لابس في ايديه ختم علينا ما يصعب جية ) أي أن هذا الحبيب الذي يضع في أصابعه الخواتم المرصعة هو قريب من النفس لدرجة أنه ليس هناك ما يحول بين الشاعر وبين زيارته ومجيئه لمن يحب .. وفي بيته الأخير يقول : جارك يا خال صغيرة وتواتي عالبال وفيها شفة يا من قال وحمراء كيف الريفية. نعود لما قلناه سابقاً حول استخدام المجتمع المحلي للفظة ( ياخال ) إذ يستخدم الرجال لفظتيْ ( العم والخال ) في خطاباتهم المعتادة فيقولون مثلا ( احكي ياخال ) دون أن يكون المُخاطب خالاً للمتحدث ، وينتقل لوصف الحبيبة فهي صغيرة السن و ( تواتي عالبال ) أي أن فيها كل ما يوافق الهوى والنفس والخاطر ثم أن لها شفاها مكتنزة جميلة ، تستحق كل ما يقال فيها ، هذه الفتاة تتصف ببشرة بيضاء مشربة بحمرة تشابه الجمال الريفي الذي هو على طبيعته ولم تتدخل المدنية والحضارة الزائفة لتطبعه بتزاويقها ومساحيقها، فكل جمال طبيعي يغري النفس البشرية أن تحبه وتعشقه ،وقديماً قال الشاعر العربي واصفاً لقائه بمحبوبته التي تميزت بجمال خدودها : عشية حياني بوردٍ كأنه خدودُ أضيفت بعضهن إلى بعض. أخيرا : ترى هل يمكن أن يكبر أو يشيب قلب أنتج مثل هذه الأغاني : وقائلة متى يفنى هواهُ فقلتُ لها متى فَنِي المِلاحُ؟

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :